عزيزي القارئ، سأشرح لك العنوان لاحقاً ولكن دعني أولاً أقص عليك بعض القصص بأصوات قد تعرفت عليها أثناء ترحالي أكثرها تأثيراً تأتي إليك من أوروبا التي يضرب فيها المثل في التقدم من عاصمة كثير ممن يسكنونها بلا سكن قصصهم مقدمة إليك في وصف رمادي من بلد أخضر.
سأقوم بإاستضافتك في منزل بارد يعود لأحد المتشردين الذين حالفهم الحظ، منزل قام صاحبه ببنائه تحت حماية شجرة ما ولن أسميه منزلاً... أو ربما يجدر بي تسميته ذلك لأنه المكان الذي يعود إليه ذلك المتشرد بلا أوراق ملكية ولا دفء يحتضنه في الليالي الباردة ولا إحساس داخلي بالأمان وربما الشيء الوحيد الذي يشعره بالأمان العصافير التي تنام على غصن هذه الشجرة ودموعه التي تمسح القهر عن وجنتيه المجعدتين المليئتين ببياض الشحوب والمرض الملطخ بسواد الفقر الذي يلائم الإسفلت.
المنزل المتواضع يتكون من سرير وهو لوح خشبي يمتد فوق الطابوق عند طرفيه وهو «آيل» للانكسار يتحول صباحاً إلى مقعد عام، ومقعد صغير مرتفع بين فروع الشجرة حتى يجلس عليه عند إحساسه بالخطر من الكلاب الضالة وأخيراً جولة إلى المطبخ وهو عبارة عن عبوة ماء وتفاحة مغلفين بكيس قمامة بين الأغصان يخفيهما عن أعين قد تحسده وتسرق منه وأنا أستضيفك في منزله لأنني أستطيع ذلك.
والآن أقدم لكم فتاة شابة ذات احتياجات خاصة قد صادفتها عند مطعم شواء ترتدي ملابس باهتة اللون تكاد تتحول إلى الرمادي. يقابلني ظهرها المرهق والقدمان التي تذكراني بالجثث أما ركبتيها بكل ضعف تنثنيان نحو حائط رمادي تكاد تندمج معه، ذراعها مثنية ومجبورة يلويها الفقر الذي استسلمت له حتى لا تكسر ويدها مبسوطة ولكنها تقابل الحائط خجلاً وأكاد أتخيل كفها يدعو إلى السماء ولكن رأسها متجه إلى الأرض مثبت إلى الحائط الذي يتحمل ثقلها.
قد ظننت بأنها تمد يدها بهذا الشكل حتى لا تخسر من وقتها ورزقها عندما تنام ولكن عندما رأيت وجهها من الناحية الثانية رأيت الحقيقة المخفية بأنها كانت تبكي بحرقة وتستر دموعها المذلولة المهانة عن عامة الناس الذين يرونها كأنها معروضة للمشاهدة. يلقون بعملات نقدية لا قيمة لها فعلاً في يدها التي أجبرتها الحاجة على مدها أو كسرها أو قد يكون سبب سيلان دموعها قوة رائحة لحم الشواء والأبخرة المنبعثة من المطعم.
دعني أعرفك على البؤساء أصحاب الشعيرات البيض والحدب التي تكاد تنافس قمم الجبال التي تثقلها جاذبية البؤس الشقي إلى الأرض، بعضهم ينتظر نهايته بلا اكتراث وبعضهم يتصدق بالابتسامة، ينامون على الشوارع إلى أن يناموا عليها إلى الأبد وأنا أجزم بأن كانت لديهم أحلام ولكن بددها شتاء الواقع القارس ولم يتوقعوا بأن يكون الشارع هو المستقبل الذي طالما حلموا بأن يملكونه ويستمتعوا به.
كبار السن الحزينون بلا وقار ولا تقدير هناك وقد مر علي كبار سن -يبدون في السبعين- يعملون أعمالاً شاقة ويجمعون القمامة وآخرون يأخذون منها للعشاء إن كانوا محظوظين ويقبلون رؤوس من يلقي عليهم بالقليل من المال بدلاً من أن يقوم الشباب بتقبيل تلك الرؤوس الثقيلة بالهموم المتكأة على الأيادي الهشة متقوقعين في زاوية تحضنهم بثياب بلون حظوظهم وتفوح منهم رائحة الموت.
هناك الكثير من القصص التي مرت علي منها طفل يحتضر وأمه ترتجي ثمن دواء، منها طفلة تحتضن أرجل المارة للقمة عيش قام رجل باقتلاعها بعنف وألقى بها على الشارع بقسوة ثم ضربها حتى لم تستطع النهوض وبقيت على الأرض وكأنها ترتجي منها الحنان، منها طفل يداه الملطختان بقانون الشارع تطبع بصماتهما على زجاج المطعم النظيف وهو يرتجي بقايا الطعام على الصحن ويا ليتني أستطيع وصف سعادته التي أضاءت وجهه عندما ألقي إليه بقطعة دجاجة ملفوفة في قطعة خبز والحرمان على وجه أخيه الأكبر وهو يقسم القطعة إلى نصفين لأخويه الصغيرين، منها مشهد قد عصر قلبي عن أب قاس يدعي الشلل وهو يضرب أبناءه لأنهم لم يجلبوا له مالاً كافاً وهو يظن بألا أحد يراه، ومنها الفرحة على وجه طفلة وهي تمسك بأول لعبة لها قد أعطاها إياها أحد المارة ولن نعرف إن كانت تلك اللعبة ستباع للقمة أم تبقى لتسعد الطفلة التي لم تسمح للجوع بمسح ابتسامتها التي تشعر الجاحد ناكر الجميل من يتصنع الإهانة بالإهانة والخجل.
عزيزي القارئ، أنا في ذروة سعادتي بأنني قد أحبطت توقعاتك بالنسبة للعنوان ولكن فيه الكثير من المصداقية. حقاً، هناك الكثير من البحرينيين تحت خط الفقر ولكن ليس كأولئك الذين في الصور بل فقر في الإحساس بالامتنان والتقدير والشكر لوجوده في البحرين أم جميع الديانات والثقافات، وهذا الفقر اختياري وقابل للتغيير بعكس أولئك المحرومين من الاختيار تحت فقر قد أنهكهم وحرمهم من أبسط حقوق الإنسان.
الحمد الله الذي خلقنا في بلد إسلامي مليء بالرحمة، والغرض من هذا المقال غرس الامتنان والولاء لهذا الوطن العظيم الكبير في كرمه ولتربته الغنية بالأصالة وسمائه العزيزة التي تظللنا من الإهانة وشمسه التي تضيء يومنا المليء بفرص الرزق وتمدنا بالدفء والغنى عن التذلل، وأود أن أقبل يد ملك قلوبنا التي تعطي أطال الله في عمره، وأدعو بأن يمده الله بالصحة والعافية لاعتنائه بكبار السن والأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة وبكل أبنائه الأغنياء المكرمين.
هنوف خالد العجمي