لم يترك تقرير الخارجية الأمريكية حول الاتجار بالبشر عام 2015 شاردة ولا واردة في إيران إلا ورصدها وعلق عليها، تقييماً وتحليلاً، منتقداً الادعاءات التي ترفعها طهران باعتبارها حامية الحمى ورائدة الدفاع عن المظلومين في المنطقة، وهي بالرغم من ذلك من أسوأ نماذج الدول التي تحتقر كرامة الإنسان وتعتدي على حريته.
وذكر التقرير الذي صدر قبل أيام قليلة، ويعد واحداً من أبرز التقارير الدولية الحقوقية التي ترصد وتقيم أوضاع حقوق الإنسان من ناحية الانتهاكات التي يتعرضون لها، سيما فيما يتعلق ببيع النساء والأطفال وحتى الرجال لأغراض السخرة والعمل القسري والاستغلال الجنسي بكافة أشكاله والمتاجرة بأقواتهم واستغلال حاجتهم للعمل والغذاء وامتهان كرامتهم وأعراضهم وتقديمهم لمن يدفع.
وأظهر التقرير كيف أن إيران تعد واحدة من الدول المصدرة لضحايا الاتجار بالبشر إلى الدول المجاورة، كما إنها وجهة رئيسة لهم، وممر لعبور هؤلاء إلى دول ثالثة، ما يكشف سوء وتردي الأوضاع هناك، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وحقوقياً وأمنياً، الأمر الذي يدفع كثير من الإيرانيين إلى الهجرة والانتقال ومغادرة أماكن سكناهم وبلدهم إلى دول مجاورة بحثاً عن لقمة العيش أو بيئة أكثر أمناً والتزاماً بالقانون، حتى لو اضطرهم ذلك إلى الانخراط قسراً في أعمال غير مشروعة كالرقيق الأبيض.
وأبرز التقرير حقيقة غياب القانون في إيران وفساد الجهات القائمة على إنفاذه، وذلك في إشارة إلى عصابات الجريمة المنظمة التي تتخذ من الشركات التجارية واجهة لها، وتقوم باستغلال النساء والأطفال في تجارة الجنس والدعارة سواء داخل إيران نفسها أو في دول خارجية، لافتاً إلى ذلك الارتفاع الملحوظ في عدد الفتيات الإيرانيات المنقولات إلى دول مجاورة خلال الفترة من 2009 وحتى 2015، وذلك لإجبارهن على الزواج أو للعمل كفتيات ليل.
وفي تأكيده لهذا المعنى، اتهم التقرير صراحة الحكومة الإيرانية بعدم بذل ما يكفي من جهد لوقف مثل هذه الممارسات المجرمة قانوناً، والمحرمة دينياً، هذا بالرغم مما تدعيه طهران لنفسها، ودون وجه حق، باعتبارها قبلة المستضعفين في الأرض ووجهة المضطهدين ومنبر الدفاع الديني عن فئة معينة من البشر لم يدركوا بعد حقيقة استغلالهم وامتهان قضاياهم لتحقيق مآرب خاصة بأجندة النظام هناك.
وتبدو حقيقة غياب القانون وفساد الأجهزة المعنية بالقضاء على بعض الظواهر الاجتماعية المتفشية كالدعارة والتسول وعمالة الأطفال وغيرها بالنظر إلى استفحال الانتهاكات بحق الفتيات المراهقات اللائي يجبرن على العمل في أماكن الليل الرخيصة، خاصة في مدن طهران وتبريز وآستارا، حسبما يوضح التقرير، الذي أكد أيضاً انتشار الأطفال صغار السن، سيما من المهاجرين من أفغانستان وغيرها، وإجبارهم على العمل في الورش الصغيرة، وكمتسولين في شوارع طهران نفسها دون أن يجدوا جهة واحدة تحميهم وتدافع عنهم في مواجهة شبكات الجريمة التي تشهد رواجاً واسعاً وسطوة ونفوذاً في مواجهة أجهزة الدولة.
الغريب، كما يشير التقرير ضمناً إلى ذلك، أن الجهات المسؤولة عن القضاء على مثل هذه الظواهر السلبية المتفشية تشارك عصابات الجريمة المنظمة في عوائد وأرباح جرائمهم، حيث تبرز حقيقة المضايقات وعمليات الابتزاز الواسعة التي يتعرض لها المهاجرون الأفغان، خاصة من الأطفال، من جانب عناصر قوات الشرطة الإيرانية والمسؤولين الحكوميين الذين يتولون إدارة العمل البلدي والتفتيش والرقابة على المزارع النائية وقطاعي البناء والمقاولات والمصانع التي لا توفر جميعها الحد الأدنى من متطلبات التأمين والسلامة المهنية.
وأعاب التقرير قصور النصوص والمواد القانونية التي تحظر أشكال وأنشطة الاتجار بالبشر في إيران، مشيراً إلى أن طهران لا تعرف الجريمة في قوانينها، ولا يوجد بها أصلاً قانون تفصيلي خاص بها سوى ذلك الذي صدر عام 2004، كما إنها لا تتخذ ما يكفي من إجراءات في عملية المكافحة، مثلما تبين سلفاً، هذا فضلاً عن أنها تجعل ضحايا الاتجار يدفعون ثمن الجرائم التي لم يكن لهم ذنب فيها، ووقعوا ضحية في براثنها، خاصة من النساء، وذلك عبر اتهامهن بارتكاب الزنا وعقوبته الإعدام رمياً بالحجارة.
لذلك لم يكن غريباً أن يضع التقرير إيران ضمن دول الفئة الثالثة التي يصنفها وتخضع لتقييمه، وذلك حسب جهودها في مكافحة جريمة الاتجار، وتعرف هذه الفئة بأنها الدول غير الملتزمة بالحد الأدنى لمعايير قانون حماية ضحايا الاتجار ونص عليها القانون الأمريكي عام 2000 وتتسق عامة مع بروتوكول باليرمو، ولا تقوم بالجهد اللازم للمكافحة، مثلما أُشير سلفاً،علماً بأن الفئة الأولى لتصنيف التقرير هي الدول التي تلتزم حكوماتها بشكل تام مع المعايير المشار إليها، أما الفئة الثانية فهي الدول غير الملتزمة بشكل تام لكنها تبذل جهوداً ملموسة.
يذكر أن جريمة الاتجار بالبشر تشير حسب منطوق تقرير الخارجية الأمريكية ذاته إلى أنشطة استقطاب شخص أو إيوائها ونقله أو توفيره أو استحواذه لإرغامه على العمل القسري أو ممارسة الجنس التجاري عبر استخدام القوة أو الاحتيال أو الإكراه، ويعتبر التقرير كل تلك الأشكال والأنشطة والممارسات «وجه العبودية الحديث».
وتقوم وزارة الخارجية الأمريكية بإعداد التقرير عن طريق المعلومات التي ترد إلى ممثلياتها وبعثاتها في الدول المختلفة، إضافة للعديد من المصادر الأخرى التي تستعين بها من تقارير صحافية ونشرات للمنظمات غير الحكومية وغيرها، فضلاً عن اجتماعاتها مع المعنيين من الدول التي تخضع لتقييمها.