نسمع كثيراً عن خسارة تكبدها إنسان، لأنه أصرّ على التمسك بفكرة أو قيمة بين جموع تؤمن أو تتمسك بعكس فكرته أو تمارس ضد قيمته، هل سمع أحدكم عن رجل كان قد خسر وظيفته مثلاً لأنه أصرّ على الصلاح بين فاسدين؟ أظنكم سمعتم كما سمعت أنا!
تُصور لنا بعض القصص والروايات والمسلسلات، أنّ الحق دائماً منتصر، وأنّ الخاتمة حتماً مع الخير مهما طال أمد الشر، نظرياً فتلك حقيقة تحدّث عنها الله سبحانه وتعالى، إذ ماذا يعني أن يبني رجل صالح هو نبي الله نوح عليه السلام، سفينة في الصحراء على مدى مئات السنين، وهو يتعرض للقذف والاستهزاء والكفر برسالته، ثم يغرق الجميع إلا هو ومن ركب السفينة؟ إنه انتصار الحق الذي نعرفه تماماً.
لكن دنيا اليوم بلا أنبياء وإن كانت لم تخل من أمة محمد (صلى الله عليه وسلم).
نعيش في زمن الإمهال، أو كما يقول الإمام علي عليه السلام «اليوم عمل بلا حساب» وذلك من شأنه أن يعني بأننا قد لا نتمكن من حضور لحظة تحقق النصر للحق!
فرجل وجد أن الرشوة نظام معمول به في عمل التحق به، فرفضها انطلاقاً من إيمانه بحرمتها، والتزاماً بتكليفه الشرعي في رفضها، وإيماناً بأن الرشوة لا تبني مجتمعاً صالحاً، قد يواجَه أولاً من قبل المستفيدين من نظام الرشوة من زملاء عمل، أو قد يواجَه ويحارَب من قبل المتسلقين بالرشوة لإنجاز أعمالهم، والأدهى بأنه قد يواجَه ويحارَب من رؤوس كبيرة قامت بإنفاذ هذا النظام للاستكثار من الثروة والاستحواذ على الأعمال تحقيقاً للربح، بل ما هو أمرّ حقاً بأنه قد يواجَه ويحارَب من مجتمعه المحيط به، حين يطالبه بأن: “ما يطلع فيها والكل ماشي عليها وبلا مثالية زايدة .. فيد واستفيد”!
هذا الرجل من شأنه في حال ثبت على موقفه برفض الرشوة ورفض تمرير عمل غير منجز أو مشروع بلا فائدة، من باب الإنصاف ورعاية المصلحة العامة وإنجاز ما يقبله ضميره وخلقه ومبادئه بأن يسقط! فقد يخسر عمله وربما زوجته وعياله وربما سمعته! إلا أن هذا النوع من السقوط المؤلم إنما يتجه للأعلى حيث تستقبله السماء، ليشعر بأنه على أديم هذه الأرض غريب وحيد! وربما وبعد سنوات طوال يكون لموقفه أثر تراكمي يؤدي لمحاسبة المرتشين، وإنفاذ قانون حازم ضد الفساد، وإصلاح حال العمل بينما يكون هذا الرجل قد قضى نحبه ونُسي اسمه!
تعتبر نظرية العقل الجمعي إحدى النظريات التي تفسر حركة المجتمعات وسلوكيات أفرادها، والتي تشكلها تراكمات التوافقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع على مدى فترات زمنية طويلة، تؤدي لأن يقبل المجتمع سلوكيات وعادات معينة ويرفض سلوكيات وعادات معينة، دون التفكير في سبب القبول أو الرفض وجدواهما.
حين يقرّ المجتمع قيمة ما، إيجابية كانت أو سلبية، فإن التفكير في جدواها لا يتم إلا عند تلمس حاجة لإعادة التفكير والنظر بتلك القيمة، وهو أمر لا يمارسه كل أفراد المجتمع بل أولئك الذين يمتلكون قدرة كبيرة على الشعور بمسؤولية التغيير، وحين تبدأ حالة المخاض الفكري فقد يرفض المجتمع ما قد ينتج عنها، لا لأن الناتج سلبية لكن لأنه يختلف عما درجوا عليه، فمقاومة ما ينتج في البداية يكاد يكون أمراً حتمياً، الغريب أن عملية إقرار قيمة أو عادة ما، ثم عملية مراجعتها ثم مقاومتها حتى تتخذ نمطاً جديداً ومختلفاً يتناسب وحاجة المجتمع ووعيه الراهن، إنما تحتاج لمدة زمنية ومخاض فكري واجتماعي قد يطول وخلال تلك الفترة فقد يتساقط كثير من أفراد ذلك المجتمع للأعلى!
إن كلفة ذلك السقوط ليست عادية، فقد يعني ذلك أن يفقد إنسان مكانته وسمعته الاجتماعية، وقد يعني ذلك أن يفقد إنسان حريته وصحبه وأحبته، بل قد يعني أحياناً بأن يفقد الإنسان حتى عمره! وقد يراه المجتمع الغاضب من جرأته على التصحيح مجرد ابن عاق “وهو إللي جابه لروحه” إلا أن هؤلاء المجهولين المغتربين المضحين، هم من يساهمون حقاً في تغيير مجتمعاتهم للأفضل، لكن لا يتم ذلك إلا حين يسقطون!
الكثير من الظواهر الاجتماعية السلبية، والتي تقع على النقيض تماماً من ديننا ومبادئنا وقناعاتنا، نمارسها لأننا نخشى السقوط للأعلى إدراكاً بمدى وجعه وكلفته وجهلاً بحقيقة ذلك السقوط الملائكي وأثره, ونقصاً في درجة إحساسنا بالواجب تجاه تغيير المجتمع للأفضل، ومن يمتلك جرأة لأن يختار السقوط وإن كان للأعلى.
الناشطة الاجتماعية
إيمان الحبيشي