تعز - (الجزيرة نت): تتوارى صورة تعز القديمة بين نيران المدافع والدبابات وغبار المعارك المشتعلة فيها، فلا تكاد تعثر في معالمها على ما يشبه تلك المدينة المضيافة التي كانت «تعز زائريها»، ويدفع سكانها اليوم ثمن موقعها الاستراتيجي دماً وأوبئة وشروخاً نفسية في «نكبة» لم تحرك بعد الهيئات الدولية.
«جبل صبر» «3 آلاف متر» الذي يحتضن تعز بحنو تخلى عن تاريخه كحارس للمدينة ومصدر أمانها بعد أن سيطر الحوثيون على قمته، وتهاطلت القذائف في الأيام الماضية على أحياء المدينة قبل أن تستعيده المقاومة.
وفي خضم قصف جنوني قتل العشرات من المدنيين، واستمرت المجازر اليومية مع اندلاع المواجهات قبل أيام في المدينة وسيطرة المقاومة الشعبية على معظم أحيائها.
وزير الإدارة المحلية اليمن عبد الرقيب سيف قال إن تعز مدينة منكوبة والمدنيين فيها غير محميين من الميليشيات الانقلابية - في إشارة إلى الحوثيين - لافتاً إلى أن هناك قتلاً ممنهجاً وتدميراً متعمداً للمنازل واستخداماً للسلاح الثقيل في ضرب الأحياء السكنية.
وقدمت البعثة اليمنية الدائمة لدى الأمم المتحدة تقريراً مفصلاً بالجرائم التي ارتكبتها ميليشيات الحوثي وناشدت الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون برفع الملف إلى مجلس الأمن الدولي.
وأكدت منظمة الصحة العالمية أنه تم الإبلاغ عن أكثر من 350 قتيلاً وجريحاً في تعز في الأسبوع المنصرم وحده - وبلغ عدد الجرحى منذ اندلاع الحرب قرابة 10 آلاف وأكثر من 500 قتيل - وذكرت أنها تنسق لاستجابة سريعة لتوفير إجراءات طبية عاجلة للمتضررين دون أن يحصل ذلك بعد.
فالحرب المستعرة قطعت عن سكان تعز أسباب الحياة، فغاب الماء الصالح للشرب بالمدينة بعد إغلاق محطات التصفية بعد لانقطاع الكهرباء منذ أكثر من شهرين، وتكدست أكوام النفايات في كل شارع، وكثرت المياه الراكدة التي عجت بالحشرات الناقلة للأمراض.
كما توقفت غالبية الخدمات الصحية وأغلقت معظم المستشفيات في المدينة المزدحمة بالسكان، وتحدثت تقارير المنظمات الإنسانية عن أن مخزونات الطعام نفدت وارتفعت أسعار الطعام بشكل كبير وهو ما ينذر بانتشار المجاعة. وآخر الزائرين غير المرغوب فيهم للمدينة كان مرض «حمى الضنك» الذي أودى بحياة أكثر 65 شخصاً، ورصدت منظمات صحية يمنية إصابة أكثر من 10 آلاف شخص بهذا المرض في الأشهر الثلاثة الماضية، وفي حال استمرار المعارك بالمدينة ستتعاظم فيها الكارثة الإنسانية بشكل أشد وأنكى.
وفي الأربعة أشهر الأخيرة تعرض 90% من المستشفيات في تعز إلى القصف، وباتت 17 مؤسسة طبية فقط تعمل من بين 421، وأغلق أكثر من 500 مخزن دواء، وبقي 28 من الكوادر الطبية في عملهم من بين 932، و181 صيدلية فقط من أصل 412، وقتل العشرات من العاملين بقطاع الصحة، ومئات المدنيين.
ودفعت تعز بناسها وتراثها وتاريخها ودورها الثقافي ثمنا باهظا لموقعها، واستهدف المتحف الوطني بقذيفة وكذلك متحف البدر، كما نالت قلعة القاهرة «حصن تعز» نصيباً من الضرر وكذلك المدرسة الأشرفية جراء المواجهات.
وتعز الواقعة في جنوب غرب اليمن مدينة إستراتيجية مهمة يطل عليها جبل صبر - الذي يعد ثاني أعلى جبل في الجزيرة العربية - وتعد بموقعها الجغرافي حلقة الوصل بين جنوب اليمن وشماله وهي بوابة الجنوب وقريبة من مضيق باب المندب، كما إن السيطرة عليها يؤدي إلى بقاء ثاني المدن اليمنية وعاصمة الجنوب عدن تحت التهديد.
كما إنها العاصمة الثقافية والمدنية لليمن ومركز للطبقة الوسطى المتعلمة وخزان الكوادر الإدارية والسياسية والنقابية والثقافية في البلاد، ويشكل عدد سكانها نحو 12% من سكان اليمن - أكثر من 3 ملايين - وتتميز بتنوع نشاطها الاقتصادي والزراعي.
وعلى المستوى الجغرافي تتصل تعز كمحافظة بمحافظتي إب والحديدة شمالاً ولحج والضالع من الشرق وهي قريبة من صنعاء «256 كلم» وعدن «نحو 150 كلم» ما يجعلها عقدة اتصال مهمة.
وتحظى تعز بقيمة دينية بارزة، وقد كانت دائماً مدينة مؤثرة دينياً، باعتبارها أهم مراكز السنة الشافعية في اليمن، وقد حاولت الدويلات الزيدية المختلفة السيطرة عليها لعدة قرون وكانت عاصمة لآخر دولة زيدية قبل ثورة سبتمبر 1962.
وخلال ثورة فبراير 2011، كانت تعز من أبرز معاقل المعارضة للرئيس اليمني المخلوع علي عبد الله صالح، ولعبت دوراً هاماً في الاحتجاجات، ولم تتخل عن دورها كصانعة للأحداث والتحولات السياسية في اليمن.
وقد جعلت هذه العوامل تعز المعارك لا تنتهي فيها بسهولة، في ظل تمسك الحوثيين ببعض المواقع فيها لمعرفتهم أن خسارة تعز كمدينة ثم كمحافظة سيؤدي إلى انهيار مشروعهم في اليمن عسكرياً ثم سياسياً.
وفي خضم الحسابات السياسية والعسكرية أصبحت تعز رهاناً للحوثيين وأصبح الإنسان وقوداً للحرب، وتحولت المدينة التي كانت تضج بالحياة وأسبابها ومرافقها إلى مسرح للموت مرضاً أو جوعاً أو بالقذائف والرصاص.