قال عز من قائل: «ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون (169) فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون (170) يستبشرون بنعمةٍ من الله وفضلٍ وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين» (171) (آل عمران).
بادئ ذي بدء، أتضرع إلى المولى عز وجل بالدعاء لشهيد الواجب ولجميع من سبقوه بنيل شرف الشهادة دفاعاً عن أرض الوطن بأن يتغمدهم بواسع الرحمة والمغفرة وأن ينزلهم منازل الشهداء والصديقين إنه ولي ذلك والقادر عليه. كما أتقدم بخالص التعازي لأسرة الشهيد البر داعياً الله عز وجل أن يلهمهم وإيانا الصبر والسلوان وأن يحسن عزاءنا وعزاءهم.
شهد يوم الاثنين من مطلع هذا الأسبوع واقعةً توشحت بالسواد أشغلت عقولنا وأذهاننا وأحزنت قلوبنا وأدمعت عيوننا .. لقد كان هذا اليوم هو يوم ارتقاء شهيد آخر لمصاف شهداء الواجب الذين سبقوه بنيل هذا الشرف.
شاركت أنا كغيري من كل شرائح الوطن وأطيافه في تشييع جثمان شهيد الواجب «وجدي صالح محسن بلغيث» الذي طالته يد الغدر في واقعة مشؤومة عهدناها عن شرذمة نقضت عهد الوطن وتجرأت على حرمات الله .. وأي حرمةٍ تلك التي هي أعظم من قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق. وأنا يكن الفعل والفاعل فما هو في محصلة الأمر إلا قضاء الله وقدره الذي لا نعترض عليه رغم الأسى والحزن الذي وقع في قلوبنا من ورائه.
أثناء تواجدي في المقبرة إبان مواراة الشهيد الثرى استوقفتني بعض المشاهدات التي ارتأيت نقلها للقارئ الكريم ولكل من تعذر عليه حضور الجنازة. لقد كانت أولى تلك المشاهدات صدق النوايا ونبل المشاعر التي ظهرت جليةً في نفوس المعزين وعلى وجوههم والتي جاءت كتجسيد حي لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم: مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» أخرجه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير.
أي لحمةٍ تلك التي حبانا الله بها نحن أبناء هذا الشعب الواحد .. شيبنا وشبابنا .. صغارنا وكبارنا .. رجالنا ونسائنا .. فما نحن في نهاية الأمر إلا أبناء للبحرين .. نستظل بسمائها ونفترش أرضها .. يجمعنا مصير واحد .. وهدف واحد .. وقضية واحدة .. ويجمعنا شعار واحد صاغت حروفه تاريخنا القديم والمعاصر .. شعار صهرنا في بوتقته وأزال من بيننا كل فروق واختلافات .. شعار نتغنى به ليل نهار .. الله.. الملك.. الوطن.
أيها الشهيد .. إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع وإنا على فراقك لمحزونون. لا نقول إلا كما علمنا نبينا الأكرم وما يرضي ربنا جل وعلى «إنا لله وإنا إليه راجعون».
إن ما يواسي نفوسنا ويجبر كسرها ويخفف عليها عظيم المصاب هو الرضى بقضاء الله تعالى ووعده الحق الذي تكفل به جزاءاً للشهيد الذي ضحى بأثمن ما يمكن أن يضحى به في الذود عن الوطن وعن أمن الآمنين من أبنائه .. ألا وهي نفسه الزكية .. فجاء التكريم الرباني في إنزال الشهيد منزلة عظيمة في قبره وفي آخرته حيث يحشر الشهيد في زمرة الأنبياء والصديقين وحسن أولئك رفيقا ويعطى الشفاعة لأهله ويحرم جسده على الأرض ويجيء يوم القيامة اللون لون الدم والريح ريح المسك. فاهنأ يا شهيد وقر في قبرك فحسبك الشرف الذي نلت وحسبنا هذا العزاء فيك.
ستدور رحى الأيام وسنظل نقدم الشهيد تلو الشهيد فداء لوطننا فهذا ديدننا الذي لن نحيد عنه طالت الأيام أم قصرت وسنظل نزف كوكبة الشهداء كل حين لا يثني عزمنا كيد الكائدين وحقد الحاقدين فهذا أقل ما نقدمه لوطننا ومليكنا، فالوطنية والانتماء ما كانا شعارات تكتب على صفحات الجرائد والمجلات قط ولم يكونا قصائد مقفاة فحسب .. بل هما عقيدة تعكسها أفعالٌ تجعل صاحبها يلبي نداء الوطن حين ينادي ويهرع له باذلاً كل غالٍ ونفيس فداءاً له. فلبيك يا وطني وخذ من دمائنا حتى يرتوي ثراك الطاهر لتضل عزيزاً أبياً لا تضام أبد الدهر.
وختاماً، أتقدم لعاهل البلاد المفدى ولمؤسستنا الأمنية عامة ولقوة الأمن الخاصة ولعموم الشعب البحريني الأبي بخالص العزاء والمواساة على هذا المصاب الجلل. داعياً الله عز وجل أن يحمي مملكتنا الحبيبة وأن يديم عليها نعمة الأمن والأمان إنه ولي ذلك والقادر عليه.
عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (عينان لا تمسهما النار: عينٌ بكت من خشية الله، وعينٌ باتت تحرس في سبيل الله) رواه الترمذي وحسنه، وصححه الألباني.

عماد الصعوب