كتب - عبدالرحمن صالح الدوسري:
ارتحل لويس بيلي إلى الرياض في عام « 1864 - 1865 « حسب ما ذكره د. عيسى أمين خلال ترجمته لكتابه « رحلة إلى الرياض.. والأوراق الخاصة « وكرس رحلته لجمع المعلومات عن شبه الجزيرة العربية، وخاصة نجد إلى جانب تأكيد إمكانية السفر لرجل إنجليزي في هذه المناطق دون أية عقبات وقد كانت رحلة بيلي إلى الرياض استجابة لدعوة من قبل الجمعية الجغرافية الملكية، وقبل بدء الرحلة كتب بيلي إلى حكومة صاحبة الجلالة في لندن طالباً الموافقة على مشروع رحلته إلى الرياض، وجاء الجواب بالموافقة في ديسمبر 1864، وبالحصول على هذه الموافقة كتب بيلي إلى الأمير فيصل بن تركي رسالة يعرب فيها عن رغبته زيارة الرياض.


كانت المحاولة الأولى قد بعثها من مقر المقيمية في بوشهر، ولعدم تلقيه جواباً من الأمير فيصل بن تركي آل سعود قرر بيلي البدء في الرحلة وقد كانت مغامرة منه، وفي يناير 1865 يصل بيلي إلى الكويت ويقوم بالإعداد للزيارة، ومن الكويت أرسل بيلي رسالته الثانية في محاولة للحصول على إذن بالسفر إلى الرياض وكانت للأمير فيصل تركي آل سعود يبلغه فيها عن وصوله إلى الكويت، وأنه في طريقه إلى الرياض متى أذن له، لكنه اضطر للبقاء في الكويت حتى 18 فبراير 1865 حين تلقى جواب الموافقة والدعوة من الأمير فيصل بالترحيب به في الرياض.
في هذه الحلقة يصحبنا د. عيسى أمين لنكمل رحلة لويس بيلي إلى الرياض منذ مائة وخمسة وأربعين عاماً.
في دار الاعتماد.. أدب الرحلات
يقول بيلي « في السابع والعشرين من فبراير غادرنا منطقة الكثبان الرملية الأولى، ودخلنا أرض فضاء تمتد مسافة سبعة أميال في العرض، وبعد مسافة عدة مئات من الياردات دخلنا منطقة أخرى من الكثبان الرملية احتجنا لساعة ونصف لعبورها، وهكذا تبادلت الأرض المنبسطة مع الكثبان الرملية، وتشابهت الطبقات الأرضية مع تلك التي واجهتنا فور مغادرتنا الكويت، مع وجود الكثبان الرملية التي تنقلها الرياح من مكان إلى آخر وحسب وجود الحواجز في طريقها وتنطلق هذه الرياح عبر الأودية ناقلة معها الأتربة لتقذف بها في مناطق أخرى على اليمين مرة والشمال مرة أخرى، تختلف الأعشاب هنا عن تلك التي في منطقة السمان، وقد جمعت البعض منها اليوم ، أما الرمال فإنها تميل إلى اللون الأحمر أو الذهبي ، وبعد عبورنا المنطقة الرابعة «المنبسطة» عاودتني آلام الدوسنتاريا والتي كنت أعاني منها منذ عدة أيام وكانت هذه المرة شديدة بحيث أوقفت المسير في الثالثة ظهراً، وما أن نصبنا خيامنا حتى شاهدنا مجموعة من وادي الدواسر قادمة في اتجاهنا، ولكن لم تحدث أي مناوشة معهم، وقد أخبرني شيخ السباع في المساء بأنه لولا خوفه من الأمير لانتهز الفرصة وقام بقتل عدد منهم، وقد أشار علي المترجم بأن هؤلاء القوم لم يردوا السلام ما يعني أنهم أعداء ولم يجيبوا على أية أسئلة، لقد اكتشفت اليوم بأن أحد رجالي من عسير تلك المنطقة الجبلية قرب الحديدة - كان أقلهم انصياعاً لأوامري وقد تأكد لي عناده عندما أمرت المجموعة بالتحرك في الليل، فما كان منه إلا وأن قاد ثورة ضدي في المعسكر، وبدا لي وكأنه يستطيع تسديد طعنة لي من الخلف فلم تفارقه عيني طوال مسيرتنا، أما الرجل الآخر فقد كان من الكويت، وكان يجيد التصويب، وقلما أخطأ الهدف بواسطة طلقات بندقيته، ولاقت منه الأرانب البرية الويل رغم صغرها كان لحمها لذيذاً ولم نصادف الكثير من الصيد في الطريق عدا بعض الحبارى أو بيضها، ولكن امتازت الصحراء بكثرة الأفاعي والخنافس والسحالي بكل أنواعها.
الدهناء عن سبعة مرتفعات
يواصل د. عيسى أمين حديثه عن رحلة بيلي « في اليوم الثامن والعشرين مضيناً من المنطقة الرابعة إلى مناطق جديدة، ولكن لشدة تعبي لم ألاحظ طبيعتها ولكن أستطيع القول بأن المرتفعات الرملية التي صادفتنا كان عددها سبعة من مساحات شاسعة بينها الرمال - نستطيع الآن القول بأن الدهناء عبارة عن سبعة مرتفعات كبيره تنحصر بينها أرض شاسعة مغطاة بالتربة في بعض المناطق والطبقات المتشققة في مناطق أخرى -، توقفنا على آخر قمة مرتفع ترابي وارتأى أمامنا الأفق والأرض المنبسطة تغطيها هشيم الأشجار المتناثرة هنا وهناك، نصبنا خيمتنا في أعلى بقعة لكي تصبح دليلاً لرجل الصلايب الذي أرسلناه في المقدمة ليأتي لنا بالماء من الآبار التي تبعد خمسة عشر ميلاً من هذا الموقع، وقد بلغنا بأن الدهناء تنتهي في الجنوب قرب جبل يابرين « جابرين « في اليمامة، ولكن تفقد اسمها في تلك المنطقة وتسمى النفوذ وينحني امتدادها في الشمال الشرقي حول تلال التويج، أما في الغرب حول جبل شمر والمناطق القريبة من الجوف.
الوصول لآبار مياه العرمية
وفي أول يوم من شهر مارس عبرنا آخر مرتفع في الدهناء، وأمضينا حوالي ست ساعات قبل أن نصل إلى «العرمة»، والتي بها آبار الماء المسماة «بالعرميه» أو العرمة الصغيرة حيث توجد آبار أخرى في المنطقة، وتسمى العرمة وتقع هذه الآبار في الجوانب اليابسة من مجرى سيول الشتاء والتي يجري من الجنوب الغربي، وفي اتجاه الشرق مع انحناء بسيط من الشمال، في هذا المجرى تنطلق الأمطار الساقطة على تلال «تمامه» والتي تعتبر حاجزاً للعرمة، وبعض الأشجار تمر في هذا المجرى المائي ، وكانت أول أشجار تصادفنا بعد دخول أرض الجزيرة العربية، والتي منذ دخولنا إليها وجدناها غير مأهولة، وشحيحة في أشجارها ونادرة في طيورها، غادرنا منطقة الآبار مرة أخرى وسرنا بمحاذاة مجرى السيل، ووجدنا أنه كلما تقدمنا إلى الداخل عادت الطبقات الأرضية في التشابه مع تلك التي شاهدناها في السمان وقرب الآبار صادفنا بعض الدواسر الذين جاءوا لأخذ الماء إلى خيامهم المنصوبة على بعد عشرين ميلاً من الدهناء، لقد راقبت الجمال، واكتشفت أنها لم تشرب منذ مغادرتنا الكويت سوى مرتين الأخيرة منهما في آبار العرمية، شيء آخر لاحظته بالنسبة لهذه الجمال أنها تنطلق في الطريق الصحيح دائماً وكأنها تعرف طريقها، وحتى في مرعاها فهي ترعى في الاتجاه الصحيح، وقد أخبرني الرجال بأن الجمل يعرف طريقه أينما كان وخاصة إذا ما كان في المنطقة من قبل، وأشاروا إلى أحد الجمال قائلين بأن الجمل الظفيري المرافق لنا لم يزيلوا عقاله خوفاً من عودته إلى أرض القبيلة التي أتى منها قرب الفرات.
مسرح روماني من التلال
وواصل د. أمين على لسان بيلي قائلاً: « في الثاني من مارس قضينا ليلتنا على جانب من مجرى السيل، وعلى بعد مسافة وقدرها ست ساعات من الآبار، وأخذنا طريقنا إلى الضفة اليسرى من هذا المجرى، وشكلت التلال على الطرفين ما يشبه المسرح الروماني مع ثغرة كبيرة في الوسط، وتعتبر هذه التلال مصدر الماء في العرمة حيث ينطلق تيار الماء من الجهة اليمنى إلى أودية الدهناء، أما التيار المنحدر من الجهة اليسرى فينحدر في شق أرض وإلى اتساع آخر من الرمال، وقادتنا طريقنا لفتحة في جدران التلال، وكان المنظر من هذه الفتحة يعتبر أول منظر خلاب يصادفنا في الطريق، وكان طريقنا عبر هذه الفتحة متعرجاً ومرتفعاً الجوانب تطالعنا من خلالها قطاعات جدران التلال، بعد هذا الطريق وجدنا أن الرمال أكثر ليونة من ذي قبل ولذلك كان سيرنا بطيئاً فيها، وفي المساء أقمنا معسكرنا في الطرف البعيد من هذا الطريق، وفي ظل تلة رملية، ولقد طالعتنا هذه التلة أثناء عبورنا الممر.
وكانت أعلى واحدة من المجموعة الموجودة هناك ومقابله للجنوب الغربي، ومن أعلاها كنا نستطيع مشاهدة تلال التمامة، وامتدت على مد البصر في الشمال الغربي منا، تنتهي هذه الكثبان الرملية، وأعتقد أني أستطيع إعطاء الارتفاع التقديري لأعلى تلة من تلال التمامة، وذلك يساوي ألف قدم، لقد تحسن الجو منذ مغادرتنا للدهناء مع برودة بسيطة في الجو صباحاً، ولكن تبقى الظهيرة حارة بفعل أشعة الشمس، لقد مررنا بخيام قبيلة قحطان ورفضوا إعطاءنا الحليب، ولا حتى بيع شاه بدعوى أنهم يحتاجون لحليبها.
وقد غادرنا المناطق الرملية في صبيحة الثالث من مارس، ومضينا في طريقنا ثلاثة ساعات، ومن هنا تقع الرياض جنوباً وهذا ما أردناه حتى الآن، وقد تمنيت زيارة «السدو» وحاولت لرابع مرة أن أقنع المرافقين العرب ولكنهم رفضوا ذلك، لقد تظاهر مرافقنا شيخ السباع بأن له حاجة في منطقة قريبة من موقعنا الحالي وسوف يتوجه لإحضارها، في نفس الوقت كنت أعلم بأنه يحاول أن يتخلص منا لكي يسعى بأقصى سرعته إلى الرياض لينقل ما يريد نقله عنا إلى الأمير، ولكنني رفضت ذلك.
بعدها تغير مزاج شيخ السباع، واقترح أن أقوم بمرافقة ابن الأمير في زيارة إلى تلال قحطان في المنطقة الغربية، وشرح ذلك قائلاً إن سبب هذه الزيارة من قبل ابن الأمير أن يساعد الحجاج وهم في طريقهم إلى مكة.
ويؤمن طريقهم خلال مرورهم بنجد، خاصة تلك المناطق القريبة من تلال قحطان حيث سبق وأن تعرضوا إلى هجمات القبائل فيها، ولذلك يخرج عبدالله ابن فيصل مع القوة المرافقة له إلى هذه المنطقة لتطهيرها من قطاع الطرق.
الزواج من أربع بدويات!!
وأضاف بيلي: « لقد رحبت بهذه الفكرة، وكنت أتمنى أن أرافق عبدالله في أعماله الحربية، فأشار علي شيخ السباع بأن أترك عملي الحالي، وأستقر في نجد، وربما زوجني الأمير من فتاة بدوية جميلة، إلى جانب المئات من الجمال والخيل والأغنام، وكل ما أحتاجه، مع تمنيات شيخ السباع بادرته بالسؤال عن حقي في أربع زوجات.
فأشار علي أن كل ذلك ممكن بشرط استقراري في نجد، ولكن في النهاية أخبرت هذا الشيخ بأنه ورغم قبولي للعرض فإنني خادم لحكومة بريطانيا ولا أستطيع اتخاذ أي قرار دون موافقتها، ومع اقترابنا من الرياض ازداد قلق العرب المرافقين لي، واضطرابهم من قرب لقائهم مع الأمير، لقد وصلنا تلال العارضة وهذا يعني أننا الآن على مرتفع نجد وعبرنا الشعاب التي تمتد إلى الشمال وعلى مسار يوم واحد عل اليمين من موقعنا، حيث يطلق على هذه الشعاب الباطنة إلى أن تتصل بشعاب التويج حيث تمتد أمام هذه التلال أرض السدير والتي تمتاز بكثرة السكان والعمران.
لقد تحدثنا بالتحديد عن تلال التويج، فإنها تلك التلال التي تنحدر من الجهة الشمال شرقية للزلفي، وخلف السدير وتتجه خلف منطقة المحمل إلى أن تصل إلى رأس وادي حنيفة، أما تلال العارضة فإنها تبدأ من نقطة المدخل الشرقي للمحمل وتنخفض إلى الجهة الشرقية من وادي حنيفة.
أول جدول ماء بالجزيرة
يقول بيلي « لقد دخلنا في النهاية إلى العارضة من خلال وادي يسمى الوطر، والذي يقطع هذه التلال بين منطقة الشعاب والسدو، يمتاز الوطر بالعمق وتعرج الأرضية، وتخترقه بعض التشققات في الطبقات الرملية، وبعد مسير ثلاث ساعات صادفنا أول جدول ماء أشاهده منذ دخول الجزيرة العربية، وبقرب هذا الجدول نبتت أشجار النخيل وأول بناء بالنسبة لي منذ أن غادرنا الكويت، تتجه المياه في هذه المنطقة إلى الغرب، وباتجاه السدو، ومع تغير هذا الوادي لاحظنا نمو بعض الأعشاب في بقع متفرقة، وفي المساء توقفنا في السدو حيث توجد منازل تمتاز بالرونق شيدت فيه، وقلعة صغيرة مع بساتين النخيل، وبعض الأراضي المزروعة، ومن موقع القلعة نستطيع مشاهدة تلال التويج وهي أعلى تلال في نجد، ولكن الملاحظة أنها عارية من أية خضرة ويمكن تصورها كمنظر صباحي في إنجلترا قد أزيلت الطبقات الخضراء منه، قرب قلعة السدو توجد أكوام من الحجارة وكأنها بقايا بناء كبير، وفي وسط هذه الأكوام يقف عمود مقطوع من الصخر أزيل الجزء العلوي منه، وبقيت العشرون قدماً الباقية مرتكزة وسط الركام، يتكون هذا العمود من صخور قطعت بشكل مستدير، ويبلغ قطر الواحدة منها ثلاثة أقدام ترتكز على قاعدة من الصخور المقطوعة أيضاً وبشكل مثلث من الأطراف ومربع في الصخور السفلى، يقوم الأهالي باستخدام الصخور والحجارة في هذا الموقع في بناء منازلهم، وإنا اعتقد أن هذا العمود سوف يزال بنفس الطريقة، يبدو أنه لا أحد يعلم مصدر هذا العمود أو تاريخه سواء الأهالي المقيمين أو حتى الأمير عندما سألته أثناء مقابلتي له لاحقاً، ربما نستطيع القول إن هذه آثار مسيحية قديمة، وخاصة إذا اعتبرنا نقش الصليب على هذا العمود رمزاً من رموز المسيحية التي عبرت هذه الأراضي يوماً ما.
منازل السدو والاستقرار والأمن
ولايزال يتحدث بيلي عن رحلته في طريقه إلى الرياض، مضيفاً « لقد كان تنظيم منازل السدو يدل على فترة طويلة من الأمن والاستقرار، وعند قلعتها نصبنا خيمتنا اليوم، تجمع الناس حولنا بدافع حب الاستطلاع، وكان الفقر بادياً على الغالبية منهم، ولكنهم كانوا مؤدبين وهادئين وأحضروا معهم البيض والدجاج، ولكن لم أرغب في حرمانهم من دجاجهم لاعتقادي بأهميته لهم، وخاصة عندما علمت قلة ما يملكون، شاهدت بعض الأبقار النحاف، وكانت تلك الأبقار كل ما يملك هؤلاء القرويون، أن شهرة السدو ومزارعه وصلت إلى كل بقعة في الجزيرة وخارجها، وكانت هذه المنطقة مفضلة لدى أهل نجد لجمال طبيعتها وخضرتها، وتوفر الماء العذب الذي يتدفق طوال العام، ونستطيع اعتبار السدو واحة الوادي.
وختم د. أمين هذا الجزء من الرحلة على لسان بيلي « في الرابع من مارس.. تسلقنا صباح هذا اليوم مرتفعات العارضة من خلال ممر ضيق ووصلنا إلى ارتفاع ثلاثمائة قدم فوق منطقة السدو، وعلى الهضبة وجدنا قطعاً كثيرة من الصخور الرملية، وبعض الأعشاب القصيرة، وتساءلت عن عدم وجود الأغنام فأخبرني أحد المرافقين بأن هذا العشب يحافظ عليه الأهالي لفترة الخريف، ويأتون بمواشيهم في الصيف والخريف لترعى فوق هذه الهضبة، ومن أعلى هذه الهضبة استطعنا رؤية وادي السدو وانحداره في اتجاه المحمل، واتساع هذه المساحة إلى خمسة عشر لعشرين ميلاً، وحتى تصل إلى تلال التويج، وكان ممكن رؤيتها بوضوح، وكان دليلنا يعتبرها المدخل الشمالي لوادي حنيفة، وهي نفس التلال التي تمتد إلى منطقة الخرج، وبيننا وبين هذه المرتفعات وعلى اليمين من موقعنا تشكل التلال المنخفضة الجهة اليمنى من وادي حنيفة وتعتبر في الطرف الشمالي للمدخل في هذا الوادي، وتقع على يسارنا تلال العارضة وقد أشار دليلنا أن موقع الرياض في الشرق والجنوب الشرقي من موقعنا على الهضبة، أما السليمية فهي في الجنوب، ثم سيح اليمامة والخرج، وفي النهاية الحوطة، وتعني كلمة السيح نبع الماء الحلو في أي بقعة من منطقة الخرج.