بقلم: د.خالد محمد الرويحي:
إن التزايد المطرد للإرهاب الحديث، وسبل وأدوات تنفيذه، يعطي العديد من المؤشرات التي تتعلق بالفجوات المجتمعية التي تستغلها الجماعات الإرهابية للتسلل من خلالها وتنفيذ أهدافها. وتلك الفجوات المجتمعية ربما تكون فكرية، أو مؤسساتية، أو بنيوية، وغيرها. وهذا ما أدى إلى قيام العديد من الدول، وخاصة دول مجلس التعاون الخليجي، بالعمل على تطوير استراتيجياتها لمحاربة الإرهاب الحديث، حتى تمكنت -كما هو مشاهد اليوم- من مواجهة الإرهابيين، وتفكيك شبكاتهم، بل وتحديد قياداتهم. وهو إنجاز كبير -يحسب للدول الخليجية- في طريقها الطويل لمحاربة الجماعات الإرهابية.
وعلى الرغم من تعاظم خطر الإرهاب والجماعات الإرهابية، ولكن في نظري فإن الخطر الأكبر هو دخول بعض الدول العظمى في خطٍ موازٍ مع ما تتبناه الجماعات الإرهابية من أهداف، رغم اختلافها مع مبادئها وأساليب تنفيذها لعملياتها، في سبيل تحقيقها لهذه الأهداف. فالوقائع التي نراها أمامنا تشير إلى أن بعض الدول العظمى قد بدأت في شن معارك متفرقة تحت مظلة الحروب الحديثة التي لا قبل للدول الإقليمية بها، ولا تمتلك الأدوات المناسبة لصدها أو مواجهتها. ويمكن مشاهدة بعض أوجه هذه المعارك في الهجمات التي شنتها روسيا على إستونيا عام 2007، وعلى جورجيا عام 2008، وأخيراً على أوكرانيا في 2015.
ما هي الحروب الحديثة؟
لقد تطور المفهوم التقليدي لدى الإنسان لساحات الحروب، من خلال التراكم المعرفي الذي اكتسبه الإنسان عبر تاريخه الطويل الذي يمتد لحوالي 2.7 ألف قرن. وكما هو معلوم لدى العسكريين والخبراء الأمنيين، فإن للحروب أبعاداً معينة نستطيع من خلالها تحديد نوعية كل حرب، وأفضل السبل لمواجهتها. وقد تطورت الأبعاد المحددة لساحات الحروب مع الثورات الصناعية والعلمية، خصوصاً تلك التي حدثت خلال القرون القليلة الماضية، وتحديداً منذ القرن الثامن عشر.
تاريخياً، كانت الأبعاد المحددة لساحات الحروب تتمحور حول بعدين أساسيين هما الأرض والبحر، بسبب اقتصار قدرة الإنسان في ذلك الحين على هذين البعدين لشن الهجمات. وبعد الثورة الصناعية الأولى دخل الجو كبعدٍ ثالثٍ لساحات الحروب، مع دخول الطائرات ضمن الأسلحة القادرة على تدمير العدو. وبعد غزو الإنسان للفضاء في النصف الثاني من القرن العشرين دخل الفضاء كبُعدٍ رابعٍ للأبعاد المحددة لساحات الحروب.
ومن المهم ملاحظة أن جميع هذه الأبعاد تعتمد بشكلٍ أساسي على القدرات الحسية التقليدية لدى الإنسان منذ العصور القديمة، والتي يستطيع من خلالها تحديد الأخطار المُحدقة به. وربما بدأ التعقيد الحسي بشكل بسيط بعد ذلك دخول الفضاء كأحد الأبعاد المحددة للحروب، بسبب أن الفضاء الكوني يعتمد على الأبعاد الثلاثية المكونة للحيز المكاني التقليدي للفضاء الكوني، مضافاً إليه عنصر الزمن كعنصرٍ ديناميكي متغير، لتكملة العناصر الفيزيائية المطلوبة، لتحديد المكان والزمان في الفضاء الكوني.
أما البُعد الخامس في الحروب فقد تم تحديده بعنصر المعلومات، وذلك بعد انتشار استخدام شبكة الإنترنت، وسيطرة المعرفة الرقمية على العديد من نواحي الحياة.
ولكن لو قمنا بتحليل هذه الأبعاد المكونة لساحات الحروب: الأرض، البحر، الجو، الفضاء، والمعلومات، نرى أنها لاتزال تعاني من النقص في قدرة هذه الأبعاد على احتواء الحروب الحديثة، وخصوصاً تلك الحروب التي يتم من خلالها اختراق الدول وتدمير بنائها الأساسي، بل وتعطيل المدن، وشل حركة المؤسسات في ثوانٍ معدودات، وتكبد الدول المعتدى عليها الملايين من الدولارات، لإصلاح ما أفسدته عمليات رقمية لا تستمر أكثر من ثوانٍ معدودات.
إعادة تعريف الحروب الحديثة
وبناءً على ما سبق، أرى بأن أولى الخطوات المطلوبة لفهم الحروب الحديثة تكمن في إعادة تشكيلها إلى ساحتين أساسيتين، هما، أولاً: حروب الفضاء الكوني «الفيزيائي» المحسوس. وثانياً: حروب الفضاء الرقمي «الكهرومغناطيسي» غير المحسوس.
فحروب الفضاء الكوني هي الحروب التقليدية -بغض النظر عن الأسلحة المستخدمة فيها، سواءً كانت أسلحة تقليدية أو أسلحة الدمار الشامل- وهي الأبعاد الأربعة المعروفة: الأرض، البحر، الجو، والفضاء.
أما حروب الفضاء الرقمي فهي حروب تعتمد على ساحات غير تقليدية -الفضاء الكهرومغناطيسي- وهو الفضاء الحديث القائم على المعرفة الرقمية، وفيه عصب الحياة المعاصرة، وتعتمد على هذه الحروب: الدول، والمجتمعات، والشركات، والمؤسسات، لتنفيذ أعمالها اليومية، بصورة غير مرئية في أغلب الأحيان.
وهذا التقسيم الأساسي كفيلٌ بإيجاد العناصر المكونة لكلتا الساحتين، وبالتالي بناء القدرة على خلق الأدوات التقنية الكفيلة بمواجهة كل نوعٍ من أنواع الحروب، وخصوصاً الحروب الحديثة.
الحروب الهجينة «Hybrid»
إن أخطر أشكال الحروب التي تواجهها المجتمعات والدول النامية، والتي بدأت في الظهور خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين هي ما يطلق عليها الحروب «الهجينة». وهي الحروب القائمة على المساحة التي تلتقي فيها حروب الفضاء الكوني مع حروب الفضاء الرقمي، وتكون نتيجتها خسائر مضاعفة بمئات المرات، مقارنة بالحروب التي تقتصر على إحدى الساحتين بشكلٍ منفصل. والسبب الرئيس وراء ذلك هو اعتماد الحروب «الهجينة» على أسلحة ووسائل وأدوات تقليدية وغير تقليدية، منتظمة وغير منتظمة، علنية وخفية، ويتم فيها استغلال كل الأبعاد الجديدة في هذه الحروب، للتغلب على التفوق الذي تمتلكه الدول في الحروب التقليدية، وأهمها على الإطلاق البعد الذي أضافه الفضاء الرقمي إلى المنظومة البشرية التقليدية.
بناء القدرات الوطنية لدول مجلس التعاون
إن التهديدات التي تواجهها دول مجلس التعاون في تزايد مستمر، وتأتي على عدة مستويات. فبالإضافة إلى المخاطر الاقتصادية المتعلقة بانخفاض أسعار النفط، وما يفرزه ذلك من تأثيرات على استقرار المنطقة أمنياً، واقتصادياً، واجتماعياً، فإن الإرهاب الذي تمارسه بعض الدول العظمى وجماعات ما دون الدول يحتم على دول المنطقة البدء في وضع الاستراتيجيات المناسبة، لمواجهة هذه التهديدات التي بدأت تتخذ أشكال الحروب الحديثة، دون وجود البنى الأساسية المناسبة، لمواجهة هذه التهديدات.
وكما هو مشاهد، فإن استقرار المجتمعات الخليجية واستتباب أمنها يغري العديد من الدول الإقليمية والعظمى، لبذل مزيدٍ من الجهود، لزعزعة دولنا الخليجية، ووضعها تحت شتى أنواع الضغوط، للنيل من مكتسباتها وإنجازاتها. ولذلك، فإن الدول الخليجية مطالبة بالبدء في خلق المؤسسات المناسبة، لتطوير البنى الأساسية، لمواجهة أخطار حروب المستقبل، وضمان استمرار استقرار وأمن مجتمعاتها، كما كانت ولاتزال، منذ مئات السنين.
* المدير التنفيذي لمركز «دراسات»