العريفي: أسماء البورشيد كلما وضعت أصابعها على رأسي انتابتني الحياة
رضاب: العريفي أعلن أن النوع الأدبي للقصة بشكله التقليدي انتهى
السيابي: «جمرة الروح» مليئة بالإشارات عندما تلتصق بلغة شاعرية يجيدها الروائي
فهد حسين: الكاتب يعرف مزالق العمل الثقافي وتموجاته
رويترز: الزوجة اعتبرت أنه «مات مشنوقاً على رماد ورقة»
كتب - علي الشرقاوي:
«أسماء بنت أحمد البورشيد، كلما وضعت أصابعها على رأسي انتابتني الحياة»، بهذه الكلمات أهدى الروائي والمسرحي البحريني روايته «رائحة القميص» إلى أمه، وهو الذي عرِفَ بالمقدرة الفائقة على الكتابة، بكافة أنواعها الإبداعية، بداية من القصة القصيرة والرواية وككاتب مسرحي ومخرج، وهو يمثل ما بين «سفر الإفاقة» و»دموع اليتيم» «ابتسامة لن تغيب».
نعرف كلنا أن الرواية هي واحدة من أهم أشكال فن سرد الأحداث والقصص والوقائع في زمن ما ومكان ما، وبعض الأحيان في الزمان والمكان المتخيلين، والرواية كما هو معروف للقراء تضم الكثير من الشخصيات المختلفة في توجهاتها ورؤيتها وأحلامها وطموحاتها وانفعالاتها وصفاتها، لهذا فهي معبرة خير تعبير عن عالم، يضع القارئ مباشرة أمام ما يحدث أمامه، فاتحاً له المخيلة للمشاركة في معايشة الأحداث.
خليفة العريفي عرفناه طويلاً واحداً من المخرجين الكبار المؤسسين لحركة المسرح البحريني، وعرفه البعض كاتباً مسرحياً مختلفاً، ولكن القليل من عرفوه كاتب قصة من الطراز الفريد، منذ أواخر ستينات القرن الماضي، وأحد مؤسسي أسرة الأدباء والكتاب في البحرين، وسميت مجموعة القصص التي ضمت بين صفحاتها كتاب القصة القصيرة في البحرين تحت عنوان (سيرة الجوع والصمت) المأخوذة من عنوان من قصته في هذه المجموعة. وهي الإصدار الأول للأسرة في مجال النشر.
خليفة العريفي يعود من النوم
ولعشق العريفي لعالمه القصصي الذي تعرف منه على القارئ، وتركه طويلاً، منشغلاً بعالم المسرح، إخراجاً وتأليفاً، يعود لنا من جديد لينشر بعض القصص التي كتبها منذ سنوات طويلة، محاولاً قدر الإمكان توثيق هذه التجربة المهمة في مسيرته الفنية.
تقول الكاتبة رضاب نهار عن هذه المجموعة وتحت عنوان «قيمة فنية وأدبية» يبدأ الكاتب البحريني خليفة العريفي مجموعته القصصية «سفر الإفاقة» التي جاءت كنسخة من كتاب مجلة الرافد الشهري «يونيو 2015» طارحاً أسئلة حول جدوى كتابته أولاً، وعن احتمالات التناول النقدي لها، فأشار إلى القيمة الفنية والأدبية لهذه القصص بعد التغير الذي طرأ على أسلوب الكتابة بسبب الدخول في معترك الحداثة.
ويعزو خليفة العريفي الأمر، إلى الغياب الذي تشهده القصة القصيرة اليوم في حيواننا. مبيناً أن هذا النوع الأدبي بشكله التقليدي قد انتهى، وصار النص الواقع بين القصة والقصيدة النثرية هو سيد الموقف. وأن القصص يمكن أن تكون ضمن الشهادات والوثائق التي تدل على أدب الشباب في فترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي، ويمكن أن تكون مادة معينة للباحثين والدارسين.
جمع العريفي في كتابه «سفر الإفاقة»، ذي حجم القطع الصغير، 19 قصة قصيرة، حصل عليها بعد أن فتش هنا وهناك في أرشيفه الخاص، وفي المواقع والصحف التي كان قد نشرها فيها، من بينها «الدخول إلى الدائرة»، «السجين»، «البقعة السوداء»، «ابتسامة لن تغيب»، وها هو يعيد تقديمها لنا مرفقاً إياها بالتاريخ الذي كتبت فيه. وكأنه يريد أن يوثق لكتابته في ذاكرتنا ويحفر فيها عميقاً، متسائلاً عن الحضور الذي سنلاقيها به، نحن الذين نعيش المتغيرات ونشهد زمن التحولات الفكرية والاجتماعية والأدبية الحاصلة.
بدأ العريفي من سبتمبر 1967، من قصة بعنوان «دموع اليتيم»، التي تغوص بأحداثها وعباراتها، داخل عالم طفل رحلت أمه ليبقى والده المعتوه مقابلاً له. متتبعاً خطواته المتلمسة لحياته الجديدة المقيتة، واصفاً فضاءاته الكئيبة بواسطة سرد أتعبتنا مفرداته الدالة على اليأس، التعب، والكثير الكثير من الحزن.
ويختم المجموعة بقصة لها ذات العنوان «سفر الإفاقة» تاريخها يعود إلى العام 1980، وما بين سطورها يمزج بين صراعاته العديدة المتولدة من قهر يعيشه لشخصيته الدرامية داخل النص.
ونمشي معه منذ البداية نحو التخبط والتشظي، مارين على عدة تفاصيل هي مبرره للألم والتعب: امرأة بطيف ضائع، طفل صغير يختبئ من هراوات الشرطة المسلحة بعتاد كامل، شباب معتقلون للاشتباه بهم، وأما الأمل، هذا اللون الأخضر في فرشاته، فقد غلبه اللون الأحمر وذاك الرمادي، غلباه فعلاً بينما كان يصر عليه، معلناً أن فرشاته ستنتصر لخضرة العينين. مثبتاً أن كل شيء قد تغير إلى صورة كارثية، أسوأ وأكثر كآبة واختناقاً، العريفي بعد سفر الاستفاقة، شعر أن تجربته الحياتية قد نضجت وأن أدواته في الكتابة وصلت إلى ذروتها، فما كان منه إلا أن بدأ فعل المحاولة لينقلها إلى القارئ المتعطش لراوية مغايرة مختلفة.
البحث عن عالم أكثر إضاءة
تقول الكاتبة رضاب نهار: صدر عن مؤسسة بيت الغشام للصحافة والنشر والترجمة والإعلان رواية جديدة للكاتب والمسرحي البحريني خليفة العريفي بعنوان رائحة القميص، ضمن توجه المؤسسة للانفتاح على كتاب من الخليج وتقديم مجموعة من الأعمال الأدبية لأسماء معروفة في المنطقة، تقدم رواية العريفي مفهومي الحرية والحب، وحوارهما في حياتنا، وصداميته مع الواقع أحياناً، فتقدم «رائحة القميص»، حكاية هروب أميرة من إحدى الممالك الحديثة مع بحار بحريني بدافع الحب والحصول على الحرية، وكيف أنها تستمتع بحريتها في قرية بسيطة من قرى البحرين، وأهدى العريفي العمل إلى أمه «أسماء بنت أحمد البورشيد، كلما وضعت أصابعها على رأسي انتابتني الحياة»، تأتي الرواية في لغة شعرية لا ترهق قارئها بقدر ما تقدم له متعة حكائية تفاصيلها البسيطة تدور فــــي خلـــــد الإنسان وهو يريد الاكتشاف، اكتشــــــاف الحــــب أو الأمكــــنة، ويختـــار للفصل الأول مقطعاً يقول فيه:
لا تغني غيمة
ولا الأخضر له طعم السماء
هي الأنفاس تعتني بنفسها
وتستعيد نومها لحظة السهو.. الجميل
بينما أراد للفصل الثاني مقطعاً شعرياً آخر، كأنما يخاتل القصيدة مقارباً للغتها مع القصيدة:
كل الطرق تتعثر في زحمة الليل
تتعثر في الروح
تتعثر في رجفة النبض
في أغاني المتعبين
تتعثر فينا،
فلا نعثر علينا
عالم جمرة الروح وحصة هائلة في السرد
يطرح الكاتب والمخرج والممثل المسرحي البحريني خليفة العريفي في روايته «جمرة الروح» موضوع الخيبات التي لا تنتهي والأحلام المحبطة والنضال الذي يصل بصاحبه إلى يأس هنا وإيمان غريب عنه هناك، إلا أن حصة خليفة العريفي من الشعر في سرده ليست قليلة، بل «فائقة»، خاصة في القسم الأول من الرواية، ويبدو أن هذا الأمر شائع جداً بين قسم كبير من كتاب الرواية العرب إلى درجة ملحوظة، على الرغم من جمال النص الشعري هنا أو هناك قد يسيء إلى العمل الروائي، السرد بشعرية أمر جميل ومهم ، لكن كتابة شعر خالص بمعنى استقلاليته أو شبه استقلاليته عن الزمان والمكان المعينين للرواية أمر آخر قد يقال فيه أن صاحبه ربما ضل طريق السرد، إلا أن خليفة العريفي «يستلحق نفسه»، كما يقال، إذ إنه بعد القسم الأول من عمله يعود إلى سرد معقول ويتحول الجو الشعري عنده إلى خادم للسرد في شكل جزء لا يتجزأ منه على خلاف ما واجهناه في بداية الرواية، وهناك شيء آخر يميز كتابة العريفي في القسم الأول من عمله أيضاً، وفي أماكن أخرى منها، وهو أن الفصل الواحد من الرواية يصلح أحياناً أن يكون قصة قصيرة مستقلة نوعاً ما، جاءت الرواية في 192 صفحة متوسطة القطع، وصدرت عن «مملكة البحرين وزارة الثقافة والتراث الوطني»، وعن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» في بيروت وعمان، بعد قراءة الرواية ومعرفة أن البطل سجن بتهمة تفجير سيارة ضابط إنجليزي قد يجد القارئ نفسه قادراً على أن يفهم هذه الكتابة الشعرية التي تبدو أنها تدور حول الحدث ولا تسهم فيه زيادة أو نقصاناً، أما قبل ذلك فتبقى الأمور معلقة، وتشتد الرومانسية حزناً إذ نقرأ «تزداد الأغنية ارتفاعاً وسرعة، يزداد السعال حدة وحشرجة، تختلط الأغنية بالسعال حتى يصيرا صوتاً واحداً مشروخاً».
ويبدو لنا هنا أن الكاتب لا ينقل الواقع أو ما يشبهه، بل يرسم صورة من الحزن المكثف لينقل ما في ذهنه وهو عالم شعري حزين أكثر منه واقعاً. الواقع قد يكون أسوأ أو أفضل -هذا لاشك فيه- لكنه يكون مختلفاً عن هذه الصورة الذهنية والحالة النفسية التي تشبه الشعر الرومانسي أكثر من الرواية القريبة من الواقع.
في الرواية تتشابك الأزمنة وتتداخل الأماكن في أجواء تنضح بالرمز أحياناً. الزوج في السجن كما أسلفنا وهي مع ابنتها التي لم يرها والدها بعد. بعد رفض طويل رضخ السجين وقبل توقيع ورقة «توبة» شوقاً إلى زوجته وابنته. لكن الزوجة لما عرفت ذلك اعتبرت أنه مات. «مات مشنوقاً على رماد ورقة».
جمرة العريفي تلجأ
إلى الهلاك
يقول الناقد البحريني فهد حسين «في رواية جمرة الروح يكتب خليفة العريفي رواية الأمس الذي تحيلك إلى التاريخ، يكتب المدينة والقرية والفوارق بينهما في الوسط الثقافي والاجتماعي، ونظرة المجتمع لهما، يكتب المرأة وحريتها في اتخاذ قرارها، يكتب فراق الأحبة بقصد أو بدون قصد، بين المرأة والرجل في العلاقات الزوجية أو ضمن العلاقات العاطفية قبل الزواج أو من خلال تلك النزوات العابرة، إنه يكتب المجتمع بتفاصيل قليلة، ولكن برمزية مستعارة، ويأخذك إلى عوالم هذا المجتمع وتقلباته وتطلعاته، وإلى ممارسة الحياة اليومية، هكذا تقرأ الرواية لتسأل نفسك أيهما فضل الكاتب أن يبرزه: الشخصية أم الحدث، أم أوضاع المجتمع، أم التاريخ الذي لم يقف عنده طويلاً؟ إذ نرى أنه حاول أن يجمع هذه العناصر كلها في شخصيتين، هما: الشخصيتان البارزتان في الرواية، شخصية زينب جعفر، وشخصية الشاعر محمود السيد، وإن كانت شخصية محمود هي التي أخذت المساحتين الزمانية والجغرافية في الرواية، أما بقية الشخصيات فقد تركها تؤدي أدوارها في السرد أو الوصف أو الحوار من أجل المساهمة في نمو الأحداث التي تسهم في الوقت نفسه في نمو هاتين الشخصيتين أو إحداهما».
ويضيف الناقد فهد حسين «ويبدو أن الكاتب يعرف مزالق العمل الثقافي وتموجاته، وكيف تتم عملية الاستغلال والاستحواذ على المبتدئين في الكتابة، وبخاصة أصحاب المواهب من قبل بعض المثقفين، لذلك جعل الكاتب من الثقافة مدخلاً للنيل من النساء والحصول على الملذات الجنسية والشبقية، وقد مثل هذا البعد في محمود السيد الكاتب في الجريدة، والشاعر المعروف ليس محلياً بل عربياً، فمحمود السيد المتزوج والمحب لزوجته وعائلته، والرافض التخلي عنهما مهما كان، رأى في نفسه أنجوان عصره، حيث يحاول دائماً الوصول إلى المرأة من خلال الكلمة العذبة، والنص الإبداعي الجميل سواء كتبه هو، أم أقنع المرأة بقدرتها على الكتابة الشعرية؛ لأن «محمود تدوخه الأنوثة الطاغية، ويستسلم لغواية الفتنة بسهولة ص97»، وهذا ما حاول النص الروائي إبرازه في النساء الأربع اللائي ارتبطن بعلاقات مع محمود السيد».
شعر ونثر وحياة وصراعات
تقول رويترز في معرض حديثها عن رواية «جمرة الروح» «وتشتد الرومانسية حزناً إذ نقرأ «تزداد الأغنية ارتفاعاً وسرعة، يزداد السعال حدة وحشرجة، تختلط الأغنية بالسعال حتى يصيرا صوتاً واحداً مشروخاً»، ويبدو لنا هنا أن الكاتب لا ينقل الواقع أو ما يشبهه، بل يرسم صورة من الحزن المكثف لينقل ما في ذهنه وهو عالم شعري حزين أكثر منه واقعاً، الواقع قد يكون أسوأ أو أفضل -هذا لاشك فيه- لكنه يكون مختلفاً عن هذه الصورة الذهنية والحالة النفسية التي تشبه الشعر الرومانسي أكثر من الرواية القريبة من الواقع، في الرواية تتشابك الأزمنة وتتداخل الأماكن في أجواء تنضح بالرمز أحياناً، الزوج في السجن كما أسلفنا وهي مع ابنتها التي لم يرها والدها بعد. بعد رفض طويل رضخ السجين وقبل توقيع ورقة «توبة» شوقاً إلى زوجته وابنته. لكن الزوجة لما عرفت ذلك اعتبرت أنه مات. «مات مشنوقاً على رماد ورقة»».
رائحة القميص وسرد عن الخيبات الدائمة
تقدم رواية العريفي مفهومي الحرية والحب، وحوارهما في حياتنا، وصداميته مع الواقع أحياناً، فتقدم «رائحة القميص» حكاية هروب أميرة من إحدى الممالك الحديثة مع بحار بحريني بدافع الحب والحصول على الحرية، وكيف أنها تستمتع بحريتها في قرية بسيطة من قرى البحرين، وأهدى العريفي العمل إلى أمه «أسماء بنت أحمد البورشيد، كلما وضعت أصابعها على رأسي انتابتني الحياة»، تأتي الرواية في لغة شعرية لا ترهق قارئها بقدر ما تقدم له متعة حكائية تفاصيلها البسيطة تدور في خلد الإنسان وهو يريد الاكتشاف، اكتشاف الحب أو الأمكنة، يقول الدكتور محمد سعيد السيابي: العنوان «رائحة القميص» يستنطق في النص بأكثر من عبارة صريحة وبنفس وجودها في العنوان، فمرة على شكل حلم يراود البطلة فاطمة، وفي تناول آخر حول «رائحة القميص» يكون النقاش في اليقظة تحاول.
إن الأسلوب الرمزي في التحليل هو السائد في هذه الرواية، فالعريفي أخذ من طريقة طرح المفاهيم الإنسانية المطلقة والتحاور مع الأفكار وقياسها من وجهة نظر كل شخصية. إذ تم شحن مدلولات السرد بنتائج القيم التي تؤمن بها الشخصيات، وقد أجاد العريفي بوصفه المشاعر المتدفقة التي تغلف السرد برموز بعضها في متناول الصورة الرمزية القريبة وبعضها مبني على تغليف حبه الدواء بالسكر لتعمق بذلك ما يدور في بعض القصور والبيوتات العربية الثرية من خلال السجن الذي تعيش فيه بعض البنات والأخوات وخصوصاً عندما يجبرهم الأهل بموضوع الزواج غير المتكافئ، فيكون الخيار الوحيد لدى الشاب أو الشابة هو الهروب أو الموت البطيء أو المواجهة المكلفة في الغالب.
إن التدفق الرمزي يظهر جلياً في إنتاج العريفي المتواصل وتراكم الخبرة السردية لديه فرواية «جمرة الروح» مليئة أيضاً بتلك الإشارات وتحديداً عندما تلتصق بلغة شاعرية يجيدها الروائي ويتفنن بها مع شخصياته التي تحمل ذلك النقاء الحياتي والإشراق مما يضفي على حياة الشخصية التي يشعر المتلقي بأنها تعنيه أو تتماس معه أو مع قريب عاش أو مر بتلك الأحداث المجتمعية. فالعريفي بسلاسة ينسج في رواياته وعبر لسان شخصياته شعوراً تواقاً بالانتصار لذواتها رغم ما سيكلفها ذلك الاختيار من ثمن تتبدى فيه المنغصات النفسية في باطن الشخصيات التي تعيش تلك الهواجس بعيداً عن الأمان والتلاحم مع الواقع المكتوب لها وبعيداً عن الهدوء النفسي والاستقرار الأسري.
إن اللغة عند العريفي هي متولدة من أعماق الحدث، ومناسبة لعمر الشخصية، ومكانتها الاجتماعية وموقعها، وتضيف على الفكرة بعداً عميقاً يقترب من المتلقي بدون غلو ولا مبالغات ولا حكم مباشرة، فتجد الاسترسال اللغوي عميقاً في معناه ومبناه ولا تعارض بينه وبين مقدمة الرواية ونهايتها وكأن العمل تم كتابته بنفس واحد متواصل لا يقطعه التشظي وتغيير الأحداث وتبدل الأمكنة.
واللغة في رواية «رائحة القميص» بما تحمله من مفردات هي أيضاً متوازن شعوري ومعبر دقيق كالميزان في إيقاعاتها فعندما يكون هناك مجال للبوح تسترسل المشاعر وعندما يحتدم الصراع تتقلص المفردات وتضيق العبارات وتشكل تياراً ضاغطاً على نفس البطل بشكل مستمر ومتتابع نجده في الحور التالي على لسان الأخ الكبير «لأن أي سلطان إن لم يكن مغروراً، وأناه العليا في القمة، لن يكون قوياً، وأنا أحب أن أكون الأقوى»، (ص30) فاختيار المفردات لطاغية صغير في قصر يتنفس روح التنمر وإن كل من تحته يأتمر بأمره فتتكرر كلمة «أنا الأقوى» التي تحمل صفة المبالغة وإيقاعها الرنان المجلجل، على عكس كلمات عيسى البحار الذي يكون الطموح مبتغاه مع إقراره بالفوارق الطبقية ومع ذلك لغته فيها تأدب حر والمفردات التي يبيحها فيها إيقاع متناسق يمنحنا كمتلقين ذلك التعاطف مع شخصيته وقضية حبه فها هو يقول: «طبعاً أستطيع! لأجلك أفعل المستحيل، فأنت بالذات لا تغادرين أحلامي مذ رأيتك أول مرة، تشغلين حيزاً كبيراً من تفكيري رغم المسافة، رغم الحاجز الطبقي، رغم أنني مجرد بحار أقود يخت أخيك». (ص42).