بقلم - د. خالد محمد الرويحي:
ما حدث في باريس مع بداية الأسبوع الجاري من عمليات إرهابية بالغة الخطورة، ذهب ضحيتها العشرات من الأبرياء، يعيد تأكيد الحقيقة التي تأبى الدّول العظمى الإيمان بها وهي أن الإرهاب لا يمكن التّحكم فيه، مهما تطورت النّظريات والمشاريع المستخدمة للتعامل معه كأداة للتغيير أو للضغط على الدول النامية. فالعمليات الإرهابية التي تحولت إلى حروب لا متماثلة لا يمكن التخطيط لها مثل الحروب النظامية التي كانت تخوضها الأمم منذ فجر التاريخ.
فمع نظريّة «الفوضى الخلاّقة» التي استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية من خلالها تطويع واحدة من أكثر النظريات الهندسية تطوراً، وتطبيقها سياسياً وعسكرياً، كان لابد للقائمين على هذا المشروع بيان الجوانب الخفيّة غير المعلنة لخطورة استخدام مثل هذه النظريات العلميّة المتقدمة في حياتنا اليومية. فمهما تقدمت العلوم والتقنيات، تبقى محدودية عقل الإنسان في التّصرف الكامل مع مخرجات هذه الأدوات، كما في قوله تعالى في الآية «85» من سورة الإسراء «وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً». وربما نفرد في المستقبل القريب مقالاً خاصاً يتعلق بنظرية الفوضى الخلاّقة وتفاصيل استخدامها وإمكانية تحقيق أهدافها حسب ما يتم وضعه كمدخلات أولية للمعادلة.
إرهاب الدّول.. الحروب اللامتماثلة
منذ أن أعلنت روسيا عن مشاركتها الفعليّة في الحرب الدائرة في سوريا مع بداية شهر أكتوبر الماضي، بدأت الرؤية تتضح جلياً بأن الصراع العالمي بين القوى العظمى لم يعد كما كان إبان الحرب الباردة. فالتدخل الروسي كان بمثابة «استعراض» عسكري ورسالة سياسية موجهة بشكل أساس إلى الإدارة الأمريكية وحلفائها الأوربيين للتأكيد على حقيقة أن العالم اليوم لم يعد أحادي القطبية كما كان منذ أن انتهت الحرب الباردة بتفكك الاتحاد السوفيتي.
ومن الناحية الاستراتيجية، فإن القوة العسكرية الروسية التي يتم استخدامها في سوريا لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال مقارنتها بأي من القوى الأخرى الموجودة على أرض المعركة، سواء من قبل القوات الموالية لنظام الرئيس بشار الأسد، أو الجيش الجر والجماعات الأخرى المعارضة المنتشرة في الأحياء والمدن السورية. وهذه القوة هي بالتأكيد لم تكن منذ البداية موجهة للجماعات الإرهابية، كما ادّعت الحكومة الروسية مع بداية تدخلها العسكري، بل هي دعم عسكري مباشر لضمان بقاء الأسد في منظومة حكمه المتهاوية.
إذا، التدخل العسكري الروسي في سوريا هي حرب لامتماثلة، تقودها دولة، ضد شعب يحاول الحصول على حريته من نظام ديكتاتوري ولا يشكلون لروسيا أي تهديد مباشر أو غير مباشر! المسمى الوحيد المتبقي لهذا الوصف هي كلمة الإرهاب التي لم تحاول الدّول العظمى تبني أي تعريف له.
الصراعات الداخلية.. بنكهات دولية
بعد مرور أكثر من خمسة أسابيع على التدخل الروسي في سوريا، تغيرت العديد من الحقائق على أرض الواقع بصورة متسارعة، ربما عصيّة على الفهم إذا لم يتم النظر إليها من منظورها المنطقي وهو صراع الدّول العظمى في المشهد العالمي. ففي بداية تدخلها العسكري، تمكنت القوات الروسية من تقويض ما كانت تحققه قوات المعارضة من انتصارات على عدة جبهات، وذلك من خلال القصف الجوي الدقيق المبني على آخر ما توصلت إليه التقنيات الحديثة من أجهزة ومعدات، وبذلك تمكنت روسيا من دعم أركان قوات الأسد وحلفائه في إيران وجماعة ما يطلق عليها «حزب الله» اللبنانية. وما لبث الدعم الروسي حتى تقهقر بفعل ما حصلت عليه قوات المعارضة من دعم لوجيستي وتقني من قبل الدول الحليفة لها، بالإضافة إلى الولايات المتحدة التي أرسلت فرقة خاصة لهذا الغرض.
وفي الثالث والعشرين من شهر أكتوبر الماضي، التقي وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف ونظيره الأمريكي جون كيري، وذلك قبيل لقاء وزيري خارجية المملكة العربية السعودية وتركيا، في حدث يعطي مزيداً من المؤشرات على الكيفية التي يتم فيها إدارة الصراعات العالمية، لما تكون أرض المعركة بعيداً عن تلك الدّول.
لقد تحولت سوريا بعد معاناة مريرة مع الحرب الأهلية إلى ساحة خصبة لتسوية الصّراعات العالمية، خصوصاً بين الشرق ممثلاً في روسيا والصّين، والغرب بقيادة الولايات المتحدة ومجموعة من الدّول الأوروبية.
إن الصّراعات بين القوى العالمية أصبحت اليوم حروباً بالوكالة، تدفع ثمنها الدّول الضعيفة التي عادةً ما تتوفر فيها البيئة المناسبة لتكون بمثابة ساحة التجارب لهذه القوى. فالمعارك في سوريا ليست النموذج الأوحد لهذه الصراعات في ظل التحولات الجيوسياسية التي تمر بها المنطقة. ففي ليبيا، يتكرر المشهد ذاته، مع اختلاف طفيف في القوى المحرّكة لساحة الاقتتال. وكذلك الأمر بالنسبة إلى اليمن والعراق التي بدا جلياً أنها مجرد ساحات لتنفيذ الرهانات التي تتنافس عليها الدول العظمى.
العلاقات الأمريكية الإيرانية: خلط الأوراق الإقليمية
لقد حققت إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما خلال الفترة الماضية العديد من النجاحات الفاشلة على صعيد السياسة الخارجية. فقد نجحت هذه الحكومة في تحويل حلفائها الخليجيين إلى أصدقاء تارة، وغرباء تارة أخرى، بفضل سوء إدارة جميع الملفات الأمريكية المتعلقة بالشرق الأوسط. ويمكن الرجوع إلى شريط سوء الأداء الأمريكي منذ بداية ما يطلق عليه الرّبيع العربي في عام 2011، وحتى توقيع الاتفاق النووي مع الحكومة الإيرانية في منتصف العام الجاري. ولعل العامل المشترك الوحيد في جميع هذه الملفات هو الدّول العربية الرّافضة للتدخلات الخارجية أو التي لديها خططها الوطنية المحلية لكيفية تطوير مجتمعاتها ومؤسساتها. فالديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها من الملفات كانت مجرد أدوات حاولت أمريكا وحلفاؤها الغربيين استخدامها لتحقيق أهداف سياسية معيّنة تخدم فقط مصالحها.
لذلك تغيّرت السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط منذ 2011، وتحولت مع هذا التغيير العديد من الحقائق التي كانت بمثابة ثوابت للعديد من الدول العربية والخليجية. فتحول إيران بصفتها أكبر دولة في العالم راعية وداعمة للإرهاب إلى دولة يمكن التفاهم معها، بل وتوقيع الاتفاق معها بخصوص برنامجها النووي بوضعه – شكلياً – تحت مظلة المنظومة الدولية، كان كالقشّة التي قصمت ظهر البعير. وبهذا التوقيع استطاعت مجموعة دول «5+1» بقيادة الولايات المتحدة خلط الأوراق الإقليمية في الشرق الأوسط عن طريق تحويل العدو إلى حليف، وتحويل الحلفاء إلى عناصر شبه محايدة، حسب تصور الإدارة الأمريكية آنذاك.
ويجب الإشارة هنا إلى أن الدّور الذي تقوم به الولايات المتحدة في سوريا، في ظل التدخل العسكري الروسي، يعد - حسب رأيي - إحدى أعقد التحالفات الضّمنية التي استطاعت الدولتان العظميان الاتفاق عليها، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. والمتتبع للتصريحات الرسمية من الجانبين الأمريكي والروسي يرى بوضوح أن الإدارتين متفقتان على الخطوط العامة للصّراع في سوريا، ولديها ما يكفي من المرونة للتعامل مع تفاصيل هذا الصراع، بما يكفل لهذه الدول الحصول على ما تحتاجه من ضمانات لأمنها واستقرارها، دون بالطبع نسيان أن أمن واستقرار إسرائيل هي الغاية المشتركة بين أمريكا وروسيا. وليس أدلّ على ذلك التصريحات المتكررة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو فيما يتعلق بالوضع في سوريا، وتنسيقه التام مع أمريكا وروسيا من خلال زياراته الأخيرة لواشنطن وموسكو، وللحديث بقية.
* المدير التنفيذي لمركز «دراسات»