بقلم - د. خالد محمد الرويحي:
يشهد العالم منذ بداية القرن الحادي والعشرين تنامي مضطرد للحروب اللا متماثلة، وهي المعارك التي تخوضها بعض الدول العظمى تحت مسمى «محاربة الإرهاب»، ولكنها في حقيقة الأمر صراعات للاستحواذ أو السّيطرة لأهداف استراتيجية بحتة بين القوى العظمى. وأتوقع أن تزداد هذه الصّراعات سُعَاراً كلما ساءت الأوضاع الاقتصادية العالمية. وما انخفاض أسعار النفط في السوق العالمية إلاّ إحدى الصّور المعبّرة عن الحالة الاقتصادية المتردية والمقلقة للعالم في وقتنا الرّاهن، ولكن الحلول التي يتم تبنّيها لهذه السوق هو ما يجب أن يقلقنا كدول خليجية مصدرة للنفط. فالمشاريع المتقدمة لإيجاد بدائل عملية للطاقة تهدف بشكل أساس إلى التخلي عن بؤر الصراعات، وخصوصاً في الشرق الأوسط، لما لذلك من تأثير كبير على أمن الطاقة وبالتالي تأثيره سلباً على أسعارها.
والحرب الروسية اللا متماثلة على أوكرانيا، واحدة من الأمثلة المهمة لعلاقة الاقتصاد بالصراعات. فقد كان لألمانيا موقفاً مغايراًعن بقية الدول الأوروبية الرافضة للتدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، وذلك بسبب العقود الميسّرة التي حصلت عليها ألمانيا لتوريد الغاز من روسيا دون بقية الدول الأوروبية.
وفي ظل التأزم والصراع المستمر بين الدّول العظمى، واحتمالية تكرار حروبها بالوكالة في مختلف مناطق الشرق الأوسط، فإن الحل الأمثل يكمن في خلق قوى إقليمية مضادة، قادرة على الأقل على ردع الأطماع العالمية بقوة تتناسب مع حجم ما يتم التخطيط له من مؤامرات وصراعات.
الحروب اللا متماثلة والتقنيات الحديثة
إن المفهوم التقليدي للحروب اللا متماثلة كان يتعلق بالمعارك التي تكون عادة بين جماعات معينة، ثورية في الغالب، وبين حكومات الدول التي توجد فيها تلك الجماعات، ويكون الهدف منها إما القضاء على هذه الجماعات أو تقويضها.
ولكن مع التطور التقني الذي شهده العالم خلال العقدين الماضيين، وظهور الأجهزة والمعدات الرقمية «أدوات وبرمجيات»، تغيّر المفهوم التقليدي للحروب اللا متماثلة، وتحولت تلك الحروب إلى معارك تديرها بعض الدول العظمى في ساحات بعيدة عنها، كما هو مشاهد في سوريا والعراق وليبيا على وجه الخصوص. والملاحظ في الحروب اللا متماثلة الحديثة استخدام شبكة الإنترنت وغيرها من التقنيات الرقمية، خاصة الطائرات بدون طيار «Drones» لتدمير الأهداف المطلوبة، دون وجود أي قدرة لدى الطرف الآخر للرد سوى الانتقام في صيغة عمليات إرهابية، كما حدث في العمليات الإرهابية المتزامنة التي تعرضت لها باريس في مطلع الأسبوع الحالي والبيانات التي أصدرتها الجهة التي تدعي بتنفيذ هذه العمليات الإرهابية حول أسباب قيامها بها.
وما يجب ملاحظته في ضحايا الحروب اللا متماثلة الحديثة هو أنهم في الغالب من الأبرياء، سواء في الهجوم أو الهجوم المضاد. ولعل الإحصاءات التي توردها المنظمات الإنسانية العالمية لعدد ضحايا الصراعات في العراق وسوريا وليبيا لهي خير دليل على هذه الحقيقة المؤلمة، والتي يكون حلها فقط بيد الدول العظمى التي أشعلتها، وخير دليل على ذلك الاتفاقات التي تم التوصل لها أثناء اجتماع قمة العشرين قبل عدة أيام بين الرئيسين الأمريكي والروسي.
أمن الدول في القرن الحادي والعشرين
إن التطور الكبير الذي حدث للعالم بعد الثورة المعرفية قد غير العديد من المفاهيم التقليدية أو تلك التي ظلّت من المسلّمات لعقود طويلة مضت. وقد استفادت الدول المتقدمة من مخرجات المعرفة في شتى المجالات، واستطاعت تطوير مجتمعاتها بنماذج يجب علينا دراستها وتطويعها بما يتناسب مع احتياجاتنا وتطلعاتنا المستقبلية.
فمشاريع التنمية الاقتصادية على سبيل المثال أصبحت تتمحور حول المعرفة والمنتجات الرقمية، ولا أدل على ذلك من وجود العديد من الاقتصاديات العالمية الناجحة والقائمة كلياً على المعرفة.
وبالمثل، فإن أمن الدول والمجتمعات قد تحول من مفهوم تحتكره المؤسسات الأمنية والعسكرية، إلى مفهوم مجتمعي تتشارك فيه المؤسسات المدنية مع المؤسسات الأمنية والعسكرية من حيث أهمية دور كل منها في تحقيق أمن المجتمعات. فالوعي الفكري للأفراد قادر على التخلص من الإرهاب والتطرف في المجتمع ومحاربته، دون الحاجة للعمليات العسكرية التي يذهب ضحيتها العشرات في كل يوم.
ولكن المشكلة الحقيقية تكمن في إيجاد النموذج المعرفي الأمثل الذي يمكن تبنيه لمواجهة الإرهاب العابر للدول، سواء الذي تمارسه جماعات ما دون الدول، أو الحروب اللا متماثلة التي تصطنعها بعض الدول العظمى في ساحاتنا الإقليمية. فنحن بحاجة ملحة إلى تطوير استراتيجياتنا التقليدية وتبني النظريات العلمية الحديثة، مع الاستفادة من التجارب العملية التي مرّت بها الدول المتقدمة والتي استطاعت تطوير مجتمعاتها أولاً بالعلم والمعرفة، ثم بالتقنيات الحديثة التي حوّلت تلك المجتمعات إلى مجتمعات رقمية حقيقية.
صعود القوى الإقليمية
لا أعتقد أننا في دول الخليج ننتظر مثل هذه الحروب - أو المؤامرات إن صح التعبير – لتصل إلينا حتى نتيقن بأن الصراعات العالمية تبحث دائماً عن ساحات إقليمية لمعاركها. وربما تكون المعركة القادمة حرب لا متماثلة تقودها إسرائيل بحجة منع إيران من امتلاك السلاح النووي، كما كانت الحرب اللا متماثلة الشهيرة التي هدفت إلى منع العراق من امتلاك الأسلحة الكيميائية، مع التسليم بأن نفس القوة العظمى تقبل حالياً استخدام الأسلحة الكيميائية في سوريا، بشهادة المنظمات الإنسانية والإغاثية العالمية!!
لذلك على الدول الخليجية التيقن من أنها أمام اختبار حقيقي للاختيار بين البقاء، من خلال تبني الخطط والاستراتيجيات المناسبة لردع تلك الحرب المرتقبة، أو انتظار وصول الصّراعات العالمية لها واحدة تلو الأخرى. وفي هذا الخصوص، يستحق الأمر بذل كافة الجهود للتأكد من أن جميع الحكومات الخليجية لديها يقين تام بهذه الحقيقة، مع العمل على إقناع الدّول المشككة فيه بالأدلة والحقائق والبراهين، الأمنية منها أو غيرها، حتى يكون الجميع على نفس المستوى من القناعة بالأخطار المحدقة بنا.
وتجدر الإشارة في هذا الأمر إلى عملية أن «عاصفة الحزم»، التي جاءت بمبادرة خليجية تبنتها وقادتها الشقيقة المملكة العربية السعودية وشاركت في تنفيذها بعض الدول الخليجية والعربية والإسلامية، وما هي إلاّ واحدة من الأمثلة المتعددة لردود الأفعال المنطقية تجاه الأحداث والمستجدات على الساعة الإقليمية أو المحلية. وعلى الرّغم من تعقيدها واختلاط عناصرها، فإن عملية «عاصفة الحزم» قد ساهمت كثيراً في خلق المزاج الخليجي الجديد، والذي أفرز بدوره القوة الخليجية العربية بصفتها القوة الإقليمية الصّاعدة، والقادرة حالياً على المناورة في الساحة الدّولية. ويتبقى الأمل في زيادة نضوج هذه القوة الصاعدة عن طريق مشاركة الدول المتخلفة عنها أو المتحفظة عليها حتى الآن، وبالتالي يمكن عودة المنطقة إلى الاستقرار الأمني والسياسي لما قبل عام 2011، وهو الضامن الوحيد لحقن الدّماء العربية من بطش المتربصين بها، إقليمياً ودولياً.
فنجاح الدّول الخليجية في خلق قوة إقليمية – مع الاستفادة مما حققته عاصفة الحزم - سيكون كفيلاً بردع ما تحاول الدول العظمى تحقيقه في حروبها بالوكالة، ويمنح الدول الخليجية أيضاً الفرصة للعمل على تعزيز مشاريعها الاقتصادية، وبالتالي تنفيذ خططها التنموية التي ستستطيع من خلالها تأمين الحياة الكريمة لشعوبها.
* المدير التنفيذي لمركز «دراسات»