إعداد - نوران شفيق:
لم يمر الكثير على إعلان الولايات المتحدة تأكيدها بنسبة كبيرة مقتل محمد إموازي “الجهادي جون”، أحد أبرز عناصر تنظيم الدولة “داعش”، في ضربة جوية أمريكية على سوريا، وحديث الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن “احتواء” خطر “داعش” في سوريا والعراق، حتى شهد العالم سلسلة من الهجمات الإرهابية التي استهدفت العاصمة الفرنسية باريس في 13 نوفمبر الحالي، بعد أن كانت قد تعرضت لهجمات أخرى في بداية هذا العام استهدفت صحيفة “شارلي إيبدو”. وسرعان ما بدأ البعض مقارنة ما حدث في فرنسا بالهجمات الإرهابية التي تعرضت لها مومباي في الهند في عام 2008 من حيث جسامتها وطريقة تنفيذها، أو مقارنتها بأحداث 11 سبتمبر من حيث مآلاتها المتوقعة على الأمن العالمي من ناحية، وعلى إستراتيجيات مكافحة الإرهاب من ناحية أخرى.
فور تعرض باريس لهذه الهجمات اتجهت أغلب التحليلات الغربية إلى الحديث عن حتمية وجود رد فعل قوي من فرنسا والغرب، وضرورة إحداث تغييرات جوهرية في الإستراتيجية الحالية لمكافحة الإرهاب، والتي أثبتت عدم فاعليتها. ولكن تتباين الآراء حول ماهية رد الفعل والتغيير المتوقع، وتداعياته المحتملة، وما قد يواجهه من عقبات. وفي هذا الإطار نرصد أهم اتجاهات الرؤية الغربية للأزمة من خلال ما جاء في مراكز الفكر والصحف والمجلات الغربية.
أولا: فشل إستراتيجيات الاحتواء وضرورة التصعيد: أجمع أغلب الكتاب على وجود قصور في الإستراتيجية الحالية لمحاربة “داعش”، والتي اعتبروا أنها سمحت للتنظيم ببسط نفوذه في أفغانستان وتركيا وسيناء وشمال إفريقيا. فما حدث في باريس من وجهة نظر جون بولتن في مقالته في معهد “أمريكان إنتبرايرز”، لم تكن هجمات عشوائية ضد “الإنسانية والقيم العالمية” كما قال أوباما، وإنما هي هجمات تم التخطيط لها وتنفيذها بدقة شديدة. وتوقع بولتن أن تتكرر هذه الهجمات في عواصم أوروبية أخرى وفي الولايات المتحدة ما لم يتم العمل على القضاء على الإرهاب وليس احتواءه.
وفي الإطار ذاته، انتقد ساجان جوهيل في مقالته في “سي إن إن” اعتماد الغرب على القصف الجوي فقط، والتردد في استهداف عدد من المواقع التابعة لـ “داعش” خوفاً من إصابة أهداف مدنية. وأدى ذلك إلى صعوبة جمع المعلومات الاستخباراتية، ومحدودية الانتصارات التي تم تحقيقها. فلم تعد هناك قوات على الأرض قادرة على محاربة “داعش” سوى قوات البشمركة الكردية. وعليه، يصبح الغرب - من وجهة نظره - بعد أحداث باريس أمام 3 خيارات: إما استمرار العمل بالإستراتيجية الحالية التي أثبتت عدم فاعليتها، أو البدء في عملية برية بالتعاون مع حلفاء من الداخل في سوريا والعراق، أو أن يتجنب الغرب الانغماس المباشر في الأزمة والاتجاه إلى مزيد من العزلة، وهو ما لا يتوقع الكاتب حدوثه.
وتوقع أيضاً “جدعون راتشمان” في مقالته في “فايننشيال تايمز” أن تستمر فرنسا في هجومها على “داعش” في سوريا، والذي بدأته في سبتمبر الماضي، بالإضافة إلى الغارات التي تشنها ضد التنظيم في العراق منذ عدة أشهر. فمن غير المتوقع - من وجهة نظره - أن تنسحب فرنسا، بل على العكس، سيتم تكثيف الهجمات في الفترة القادمة. واعتبر راتشمان أن التصعيد ضد “داعش” قد يأتي على حساب تراجع هدف التخلص من الأسد نسبياً.
ثانياً: تدابير الأمن الجماعي واحتمالية تدخل الناتو: يرى بعض المحللين ومن بينهم جيمس ستافريديس في مقالته في مجلة “السياسة الخارجية” أن رد الفعل الفرنسي قد يتمثل في دعوة فرنسا حلف شمال الأطلسي “الناتو” إلى التدخل من خلال تفعيل المادة الخامسة من ميثاق الحلف الخاصة بالأمن الجماعي والتي لم يتم العمل بموجبها سوى مرة واحدة فقط بعد أحداث 11 سبتمبر. ولذا قد تدفع هذه الأحداث “الناتو” للتدخل بحملة جوية هدفها القضاء على “داعش” في سوريا والعراق، باعتبار أن ما تعرضت له فرنسا “حرب” كما وصفها الرئيس الفرنسي. ولقد حدد ستافريديس مجموعة من العناصر لضمان نجاح هذه العملية، من بينها أن تحظى بتأييد مجلس الأمن، وأن تتولى القيادة المشتركة في نابولي بإيطاليا مهمة إدارتها، وهي نفسها التي قادت التدخل في ليبيا، بحيث تصبح العملية الأمريكية تحت قيادة “الناتو”. كما أكد ضرورة وجود قوات خاصة للحلف على الأرض لتدريب جماعات المعارضة، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وذلك بالتعاون مع القوات الكردية في شمال العراق وقوات الأمن في بغداد. وأخيراً اعتبر أن نجاح العملية سيتطلب أن يكون التحالف مفتوحاً لمشاركة دول أخرى من غير أعضاء الحلف، سواء كانت قوى إقليمية، أو أطرافاً دولية أخرى، وعلى رأسها روسيا.
وعلى العكس من هذا الطرح، اعتبر روجر كوهين في مقاله في “نيويورك تايمز” أن تدخل “الناتو” من خلال عمليات القصف الجوي لن تحقق هدف القضاء على “داعش”، وإنما فقط ستؤدي إلى احتواء خطر التنظيم. فالقضاء تماماً على “داعش” ونزع سيطرتهم من الأقاليم التي استولوا عليها يتطلب تدخلا برياً لا يتعامل مع الخطر الناجم عن التنظيم على أنه “خطر إقليمي” وإنما “خطر عالمي”.
ثالثاً: إعادة النظر في أزمة اللاجئين وقضية الحدود في أوروبا: يرى أغلب الكتاب أن أحد أبعاد رد الفعل المتوقع، سواء من فرنسا أو من أوروبا بشكل عام، هو إعادة النظر في قضية اللاجئين، خاصة وأن أحداث فرنسا جاءت في وقت تتعرض فيه المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل لضغوط كبيرة لإغلاق الحدود الألمانية أمام المزيد من اللاجئين، حتى أن السويد كانت قد أعلنت بالفعل قبل الهجمات عن إغلاق حدودها. ومن ثم توقع البعض أن تتبع فرنسا وألمانيا نفس المسار، خاصة مع صعود اليمين المتطرف في كافة أنحاء أوروبا.
فعلى سبيل المثال، دعا دوف زاخيم في مقالته في “السياسة الخارجية” إلى ضرورة أن تتعامل فرنسا وأوروبا مع قضية اللاجئين بقدر أكبر من الحذر، والتأكد من تأييدهم للقيم الأوروبية، وطرد من يعارضونها منهم. كما أكدت مقالة في الإيكونوميست أن هناك أكثر من 500 من الجهاديين في فرنسا وإنجلترا عادوا بعد أن تلقوا تدريباً في سوريا على يد “داعش”. ولذا قد تدفع الأوضاع فرنسا وأوروبا إلى التركيز على “العدو في الداخل” من خلال تشديد الخناق على المسلمين في أوروبا، وتطبيق أنظمة المراقبة على الحدود ما بين الدول الأوروبية، والتي ستكون لها تداعياتها السياسية والاقتصادية، خاصةً بعد الإعلان عن أن أحد منفذي الهجمات جاء من سوريا ودخل إلى أوروبا من اليونان وصولاً إلى فرنسا دون أن يتعرض لأي نقطة تفتيش.
رابعاً: مراجعة إجراءات الأمن الداخلي في فرنسا: توقع كاميل بيكاستينج في مقاله في مجلة “الشؤون الخارجية” أن تؤدي أحداث باريس إلى مراجعة إجراءات الأمن الداخلي في فرنسا وسياسة مكافحة الإرهاب التي تبنتها فرنسا منذ الثمانينات، والتي تم مأسستها بعد أحداث 11 سبتمبر. فهذه الهجمات في رأيه لا تعبر عن تنامي خطر الإسلاميين في فرنسا، وإنما تعكس فشل مؤسسات مكافحة الإرهاب الفرنسية بالنظر إلى نطاق الهجمات وحجمها وتزامنها وعدد الضحايا الناجم عنها. ولذا، توقع أن تركز فرنسا على إخفاق جهاز الشرطة بها، خاصة وأن الأسلحة الآلية المستخدمة في الهجمات يصعب الحصول عليها، ومن ثم وجودها يستدعي المزيد من التحقيقات. ومن الممكن أيضا أن تنال سياسات المراجعة بعض المسؤولين، وتدفع نحو إقالتهم، ومن بينهم رئيس الوزراء مانويل فالس.
خامساً: تداعيات الهجمات على الإستراتيجية الأمريكية لمحاربة “داعش”: ركزت بعض الكتابات الغربية على آثار أحداث باريس على إستراتيجية الولايات المتحدة في محاربة “داعش”، ومناقشة احتمالية تغييرها في الفترة القادمة. فمن جهة، يرى دوف زاخيم أن الولايات المتحدة لا بد وأن تعزز من تواجدها في سوريا والعراق، وأن تتخلى عن أي مخططات للخروج من أفغانستان قبل عام 2017. ولكن من جهة أخرى، أشار بيتر باكر وإيريك شميت في مقاليهما في “نيويورك تايمز” إلى إمكانية أن يتردد أوباما في تغيير الإستراتيجية الأمريكية، خاصةً وأنه يرى أن تدخل الولايات المتحدة في العراق بعد 11 سبتمبر قد زاد الوضع سوءاً، وهو ما دفعه للانسحاب في 2011.
وفيما يتعلق بسياسة الولايات المتحدة تجاه القوى الأخرى كرد فعل لأحداث باريس، يرى كوري شيك في مقاله في مجلة “السياسة الخارجية” أنه لابد وأن تصل الولايات المتحدة إلى رؤية مشتركة مع تركيا، والحصول على دعم دول الخليج الأطراف في الأزمة، وإنهاء التحالف الروسي الإيراني لعرقلة محاولتهم التمسك بالأسد، والتعاون مع مصر، والوصول إلى تسوية بشأن استقلال الأكراد دون استفزاز الدول التي يعيشون فيها. ولا بد وأن يتم ذلك -من وجهة نظره- من خلال الوقوف خلف القيادة الفرنسية وإعطائها موقع الريادة، تماماً كما فعلت بريطانيا مع الولايات المتحدة عقب أحداث 11 سبتمبر.
سادساً- آراء معارضة للتصعيد: على الرغم من أن أغلب التحليلات اتجهت إلى الحديث عن ضرورة التصعيد في مواجهة “داعش” كرد فعل على الهجمات، ركزت مجموعة من المقالات على الآثار السلبية التي قد تنتج عن هذه السياسة. فعلى سبيل المثال، يتفق كلٌّ من صاني هاندل في مقاله وجون ليشفيلد في مقاله في صحيفة “الإندبندنت” على أن الهدف الرئيسي وراء هجمات “داعش” هو استفزاز فرنسا، ودفعها إلى الهجوم المضاد في سوريا والعراق، لأن ذلك يخلق قدراً من الفوضى يساعد التنظيم في تجنيد المزيد من المقاتلين في صفوفه، خاصةً مع زيادة مشاعر الكراهية والاضطهاد للمسلمين في أوروبا. لذا لابد ألا يأتي الرد الفرنسي على النحو الذي يتوقعه “داعش” بل وتهدف إليه، فهجمات “داعش” على فرنسا جاءت في رأيه رداً على قيام ألمانيا وأوروبا باستقبال أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين الذي كان من الممكن تجنيدهم. وبالتالي، لا بد من التركيز على محاربة التطرف في الداخل، لأن هزيمة “داعش” عسكرياً لن تأتي إلا بقيادة قوى إسلامية وليست أوروبية.
ويرى جيمس كيركاب في مقاله بصحيفة “التلغراف” أن هناك مبالغة في تقييم أهمية وضع نقاط تفتيش على الحدود الأوروبية، لأنها لن تمنع انتقال الأفكار التي هي قلب الإرهاب، ولكن ستمنع فقط مرور الأشخاص. كما أن حرية الحركة لها العديد من المزايا الاقتصادية، وبالتالي فانتهاء الشنغن لن يقضي على الإرهاب، وإنما سيجعل أوروبا أكثر فقراً.
ووفقاً لأنتوني كوردسمان في تحليله - في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية - إستراتيجيات مكافحة الإرهاب لن تستطيع أن تمنع وقوع هجمات مماثلة أو حتى أكثر سوءاً، وذلك لأن هذه الإستراتيجيات تعالج أعراض العنف والإرهاب دون أسبابها. فتغيير هذا الواقع يتطلب سنوات من الإصلاح داخل العالم الإسلامي، ودعماً خارجياً يهدف إلى خلق حكومات لا تمارس سياسات قمعية.
فمن وجهة نظر عدد من الكتاب، فإن تركيز الجهود الفرنسية والغربية على تدمير خلافة “داعش” في سوريا والعراق قد يقلل من تدفق اللاجئين إلى أوروبا، ولكن لن يقضي على خطر الإرهاب، وإنما قد يدفع التنظيم إلى التركيز بشكل أكبر على مهاجمة العدو البعيد “far enemy”.
* مدرس مساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة
التقرير نقلاً عن المركز الإقليمي للدراسات الإستراتيجية