بقلم - د. خالد محمد الرويحي:
أشارك منذ مطلع الأسبوع الجاري بأعمال «قمة المعرفة» التي تستضيفها مدينة دبي بالإمارات العربية المتحدة تحت شعار «الطريق إلى الابتكار» خلال الفترة من 7 الى 9 ديسمبر 2015. ويتم تنظيم أعمال هذه القمة السنوية من قبل مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي لما تحمله المعرفة من أهمية قصوى في عصر ثورة المعلومات والفضاء الرقمي الذي استطاع أن يختزل آلاف السنين من تاريخ البشرية وإنجازاتها في أجهزة حديثة لا يتعدى حجمها كف اليد الواحدة، ويمكنها العمل لمدة تصل إلى يومين دون الحاجة لإعادة شحنها.
أما الحدث المهم الذي يتزامن مع عقد هذه القمة هو إطلاق التقرير السنوي لمؤشر المعرفة العربي -الذي يشرف على إعداده برنامج الأمم المتحدة الإنمائي- حيث تم في هذه القمة إطلاق مؤشر المعرفة العربي 2015، الذي احتوى على العديد من المعلومات المهمة المتعلقة بمستقبل الدول في عصر الاقتصاد القائم على المعرفة، وما يتعلق بها من بنية أساسية للابتكار في الدول العربية. وتشتمل الإحصاءات التي يتم قياسها على مدى العام على مؤشرات يمكن من خلالها تحديد مدى جاهزية كل دولة للابتكار والمنافسة الاقتصادية. وتتكون هذه المؤشرات من عناصر أساسية تتمثل في مؤشرات التعليم الأساسي والجامعي والفني، مؤشر تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، مؤشر الاقتصاد، مؤشر البحث والتطوير والابتكار.
وعلى الرغم من أهمية مؤشر المعرفة لأي مجتمع في العصر الذي نعيش فيه، والذي يتخذ من المعرفة عاملاً أساسياً لبناء اقتصاد الدول بجميع عناصره التي تكون قوة الدولة في القرن الحادي والعشرين، وتحديد القدرة المستقبلية -خصوصاً لدى الدول النامية- للمنافسة في خارطة الاقتصاد العالمي، إلا أنني أرى أن هناك وجهاً آخر لتقرير مؤشر المعرفة العربي لهذا العام، لا ترسمه الأشكال البيانية والأرقام الإحصائية المعروضة في التقرير، ولكنه موجود في واقعنا العربي المعاش وما آلت إليه أوضاع بعض الشعوب العربية، وخاصة في سوريا، من جراء الحروب والإرهاب المتصاعد من قبل جماعات ما دون الدول والحكومات التي تدعمها في الخفاء. فالمؤشرات لدى بعض الدول العربية تبين حجم الدمار الاجتماعي والعلمي والثقافي والاقتصادي الذي جلبته الحروب الأهلية والثورات المزعومة للدول العربية منذ عام 2011 وحتى الآن.
لقد وصلت العديد من المؤشرات للدرجات الدنيا في الدول التي تعاني من ويلات الحروب الأهلية والصراعات الطائفية -تحت مسميات مختلفة- مما يحتم على المواطن العربي بمختلف أطيافه وانتماءاته ومعتقداته ضرورة إعادة قراءة المشهد العربي من منظور استراتيجي، بعيداً عن الأنانية الحزبية، أو الطائفية المقيتة، أو غيرها من الانتماءات غير الوطنية.
أطفالنا وشبابنا بلا تعليم
يبين مؤشر المعرفة العربي 2015 حقائق مقلقة للعديد من الدول العربية بسبب أنها تمس أبسط حقوق الفرد للحصول على تعليم أساسي -يحفظه على الأقل من الأمية- ويعينه على العيش في ظل التراكم المعرفي المرتفع جداً من حواليه. فهناك الآلاف من الأطفال والشباب المشردين من مدنهم وقراهم ويعيشون لاجئين بين حدود الدول الأخرى أو في المخيمات، قد انقطعوا عن التعليم قسراً، بسبب ما تشهده مجتمعاتهم من صراعات طائفية وحروب أهلية وعمليات إرهابية، منذ عام 2011.
فوضع الأطفال والشباب الذين هم في سن التعليم الأساسي في العراق وسوريا وليبيا واليمن لا يعطي أي فرصة لتوقع أن مستقبل هذه الدول سيكون أفضل من حاضرها، إذا استمرت الأوضاع الأمنية والسياسية كما هي عليه الآن. إن الغالبية العظمى من هؤلاء الأطفال والشباب قد اضطروا لترك مقاعد الدراسة والابتعاد عن منظومة التعليم الأساسي لأسباب ترتبط معظمها بالوضع الأمني لتلك الدول، مما اضطر الكثيرين للهجرة والعيش كلاجئين على حدود الدول المجاورة، دون أن يتمكنوا من الحصول على الفرصة للتعلم، ولو ذاتياً، وذلك بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعاني منها هؤلاء الأطفال والشباب وعوائلهم.
وتزيد مآسي هؤلاء الأطفال والشباب مع اشتداد برودة الطقس في هذه الأيام، فيكون جل اهتمام أهلهم وذويهم في حمايتهم من البرودة، مما يزيد من حجم الفجوة في قدرتهم على التحصيل العلمي لامتلاك الحد الأدنى من المعرفة الأساسية.
العقول العربية المفقودة
ورغم ذلك، أرى أن مشكلة تعليم الأطفال والشباب يمكن تصحيحها -ولو جزئياً- من خلال إعادة هؤلاء الأطفال والشباب إلى مقاعد الدراسة وتعويض ما خسروه من سنوات عمرهم عن طريق استراتيجيات حديثة للتعلم، يمكن أن تتبناها الدول الخليجية لمساعدة أبنائهم وإخوانهم في الدول العربية الشقيقة.
ولكن ما لا يمكن تعويضه هي الخسارة الكبيرة في العقول العربية الماهرة والذكية التي خسرها عالمنا العربي بسبب الحروب الأهلية والثورات المزعومة، والتي إما أن تكون قد ماتت واستشهدت، أو تعرضت للاغتيال الممنهج، كما حدث في العراق على سبيل المثال، أو هاجرت للدول الغربية في سبيل الحصول على بيئة آمنة تستطيع العيش فيها بسلام مع عوائلهم، بعيداً عن أجواء الحروب المنتشرة في أقطاب الشرق الأوسط.
دروس لمؤسسات
المجتمع المدني
في اعتقادي أن مؤشر المعرفة العربي بحاجة لأن يأخذ الاهتمام الكافي من جميع مؤسسات المجتمع المدني في الدول العربية، وخاصة في الدول الخليجية، والبدء في مناقشته -من خلال الندوات واللقاءات المفتوحة- لبيان حجم الدمار على الفرد والمجتمع الذي ستجلبه الحروب الأهلية وغياب الأمن عن المجتمعات. وهذا الأمر يحتاج من المثقفين والأكاديميين والباحثين على وجه الخصوص بذل جل جهودهم للمشاركة في عقد هذه الفعاليات، كجز من رد الجميل للمجتمعات التي احتضنتهم وعاشوا وترعرعوا آمنين مكرمين فيها، حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه من العلم والثقافة والمعرفة.
ويجب أن تستفيد من هذه المعلومات على وجه الخصوص مؤسسات المجتمع المدني، من جمعيات وأحزاب وغيرها من المكونات التي تمثل حضارة دولنا الخليجية، بحيث تستطيع هذه المؤسسات إعادة رسم خططها وأهدافها بما يساهم في بناء مجتمعاتنا، وليس كما نرى من بعض المؤسسات الشاذة التي اتخذت من منهج الهدم والتدمير شعاراً للتخلص من الآخرين والسيطرة على مقدرات الحياة كما يرونه بنظرهم القاصر.
* المدير التنفيذي لمركز «دراسات»