إسماعيل الحجي

تضع بلدان العالم المتقدم آلية بسيطة للتوظيف، إعلان في إحدى الصحف عن الاختصاصات المطلوبة، قائمة بالاشتراطات، مواعيد تقديم السير الذاتية، تليها مرحلة الاختبارات والتقييمات، ثم الإعلان عن أسماء المقبولين، وتنتهي المسألة.
بلدان العالم النامي تتبع ذات الآلية، لكن غياب آليات التقييم الحقيقية تضع المسؤولين عن التوظيف وإدارات الموارد البشرية أمام مشكلة وسؤال كبير.. من الأجدر بهذه الوظيفة أو ذاك المنصب؟ وكيف نختار أفضل 5 مترشحين من 100 أو 1000 متقدم مثلاً؟
وتفتح الحيرة حيال هذا السؤال المعقد باباً واسعاً أمام ما اصطلح على تسميته «فن كتابة السيرة الذاتية»، مشفوعاً بمهارة أخرى لا تقل أهمية «فن الأتكيت»، ومع ربطات العنق المكوية بعناية، أو التنانير المبالغ في تقشفها، واللسان المعسول، والابتسامات المتكلفة، تصبح الوظيفة بمتناول اليد، وبعد يومين فقط «في الجيب الصغير».
لجان التوظيف تجد نفسها عادة أمام طوابير العاطلين، وكل يحمل تحت إبطه سيرة ذاتية دسمة وغنية، مشبعة بدهون المهارات والخبرات، وبين دفتيها من العجائب والغرائب والقدرات الخارقة «ما لا عين رأت ولا أذن سمعت»، فكيف تختار اللجنة؟ وماذا تفعل؟
اليوم لم يعد «فن كتابة السيرة الذاتية» سراً لا يعرفه أو يتقنه إلا قلة، بل بات أمراً شائعاً ومألوفاً، فأقيمت لأجل الفن المستحدث الدخيل الندوات والدورات وورش العمل المتخصصة، وهناك منظرون للفن الجديد، وحتى افتتحت مكاتب تختص فقط بكتابة السير الذاتية «التاريخية»، لقاء مبالغ تزيد أو تنقص تبعاً لحجم «الملف» ومحتواه وغناه وتنوعه.
لا عاطل اليوم في بلداننا العربية النامية، إلا وبحوزته سيرة ذاتية متخمة، ليس بالضرورة أن تعبر عن واقع حاله، فهو يجيد عدة لغات عالمية وبطلاقة البلبل، ولديه شهادة عريضة بمجال التخصص، وشارك بندوات ومؤتمرات بعدد شعرات رأسه، وفوق ذلك يفهم بالموسيقى، وينقد صنوف الكتابة الأدبية، شغوف بالفيزياء والكيمياء والرياضيات ولكل ما يمت للعلوم بصلة، ويهوى السباحة وركوب الخيل!
بالمختصر جميع عاطلينا بخبرات أفلاطونية استثنائية، تضيق المؤسسات عن كفاءاتهم وقدراتهم الصاروخية، هم يفهمون بعلوم الظاهر والباطن، فالأطباء مهندسون بالفطرة، والصيادلة مفسرو أحلام، والصحافيون سياسيون وقادة، والقوادون مرشدون نفسيون واجتماعيون.
ويبدو من المنطقي -والحالة هذه- أن يضيف «أفلاطون» لسيرته الذاتية جملة واحدة، ويذيل صفحتها الثانية بعد المائة و»المختزلة بتصرف»، مهارة صغيرة.. تلميذكم المتواضع يجيد أيضاً «فن كتابة السيرة الذاتية»!