شيخة صالح العسم
عشت في عصر الغوص، تجولت بأزقة المحرق القديمة، تعلمت الأمثال والحكايات، عشت قصصاً ليست من عصري ولا من زمني.. هي أحداث دخلت بها عبر مخيلتي بعد سماعها من قبل والدي (رحمه الله)، والذي توفي في الخامس من مارس العام الحالي.. كان فارق السن بيني وبينه كبيراً؛ إلا أنها كانت تحمل الكثير من الاحترام والحب مختلطة برهبة الأب الصارم والحازم في دينه وعاداته وتقاليده.
طوال السنين التي كنت معه وعشتها تحت رعايته كان كثيراً ما يسافر بنا لزمن الغوص ليمر بنا بقصص شبابه وحياته مع والده وإخوته، وبعدها يعرج لنا لزمن آخر، والذي بدأ فيه العمل بالشركات الأولى الخاصة مثل النفط والميناء وغيرها، حيث التحق بها ولم يدم فيها سوى بضع سنين.
مواقف كثيرة رواها لي ولإخوتي، كثير منها مضحك وقليل منها مبكٍ..
حيث حدثنا عن منع والده لعمتي (أخته) من الالتحاق بالمدرسة خوفاً من اعتقادهم بأنها ستتعلم أموراً، كما يقول «إنها مو زينة وبتخربها»، عقليات بسيطة محترمة متمسكة بدينها ومعتقداتها، لم أكن لأفهمها لولا شرح والدي -رحمه الله- لي بطريقته البسيطة والعفوية، منها ألغاز كثيرة يسألنا عنها ليجيبها بنفسه بعد أن نستصعب حلها، فيرجع ويكررها، والمخجل أننا نفقد الحل فيضحك علينا من نسيانها مبرراً أننا مازلنا صغار السن فيما هو الكبير ومازال يحفظها، ومن هذه الألغاز «من عمري ما شبعت ولا قمت يوعان»، والذي يقصد بها لم أزل أحب الحياة ولم أشبع منها، وفي الوقت ذاته لم أقم من سفرة الطعام قط وأنا جوعان.. وغيرها الكثير.
والدي توفي وهو يقارب التسعين من العمر، إلا أن ذاكرته القوية جعلت منه سفيراً للزمن الماضي، ليستقر بذكرياته في الزمن الحاضر ولينقل لي ولكل من يجالسه ذكريات الزمن الجميل من تاريخ وماضي البحرين بأمثاله الشعبية الجميلة وعاداتها وطريقة عيشهم بذلك الوقت.
لم يكن والدي متعلماً أو مثقفاً، ولكنه حرص كل الحرص على أن نتخرج نحن بناته الثلاث من الجامعة، وكان كل نجاح لنا ترافقه دمعة غالية من عينه تشعرنا بمدى اعتزازه بنا وبإخوتي الصبية.
ولا أنسى عندما أخذت رأيه في بداية دخولي للصحافة «يبه شرايك اكتب اسمي بالجريدة شيخة صالح»، وقال وهو يضحك «أنا رايح رايح بس اسم العائله بيتم»، وأردف «كتبي شيخة العسم.. خليني أفتخر فيج».
رحمك الله يا أبي ورحم الله أموات المسلمين..