دم وأشلاء ودخان وبارود.. أطفال تصرخ ونساء تغتصب.. بطون تبقر وأطراف تقطع.. هكذا هي حياة السوريين منذ خمس سنوات تقريباً.. أرادوا الحرية فكان الثمن أنهاراً من الدماء..حتى البحار وأسماك القرش شاركت نظام بشار الأسد في إجرامه، والسوريون الذين استطاعوا الهرب من جلاد سورية، بحثاً عن بقعة آمنة في بلاد الله الواسعة، لقي كثير منهم حتفه غرقاً في مياه البحر الأبيض المتوسط.عندما تستمع لمعاناة السوريين والقصص التي جرت معهم ومع ذويهم وأقربائهم، يخال للمستمع أن الراوي الذي يحكي القصة، يغزلها من بنات أفكاره أو من قصص الخيال.. لكن الحقيقة في سورية أبلغ بكثير من الخيال.. كنا نسمع عن إجرام تيمورلنك والمغول والتتار، لكن في سورية تفوق إجرام الأسد على كل ما تخزنه الذاكرة البشرية من قصص كارثية تاريخية، فالإجرام على يد الشبيحة وزبانية النظام وملحقاته من الميليشيات الطائفية القادمة من إيران والعراق ولبنان، أبلغ بكثير مما سمع.. ويحق لهذه الثورة أن تؤرخ ثورتها ببصمة الدم الذي لا يغفر.. فالرواة بشر حقيقيون نجوا من الموت ولسان حالهم يقول:” لا عين رأت ولا أذن سمعت من قبل”.هؤلاء قصوا علينا قليلاً من القصص، بل أبسط القصص، التي حصلت في القرن الواحد والعشرين في بلد عربي سني اسمه سورية. قصص يشيب لها الولدان حدثت وحصلت مع بشر من لحم ودم.. وشهود القصص ورواتها مازالوا على قيد الحياة.. ولكن أي حياة. وصور الدم والأشلاء ماثلة أمامهم وصراخ النساء والأطفال لا تغادرهم...علي والغنمات الثلاثاستشهد اثنان من أولاد عمي بغارة جوية، وزعت أشلاؤهم على جدران المنزل، هكذا بدأ الطفل علي الرحيم 14 عاماً، الذي يعيش الآن في خيمة، بريف حلب الشرقي.. عمي قنص في حلب خرج باكراً لجلب الخبز لأطفاله، ووجدوه مسجياً بالدماء والخبز.. علي الذي كان من بين الطلبة الأوائل بنتائج شهادة الدراسة الإعدادية على مستوى المحافظة. يسرح الآن بثلاث غنمات لخاله الذي هجر معهم.. يقول:” توقفت عن الدراسة بعد أن حصلت على نتيجة التفوق، هجرتنا البراميل المتفجرة، التي دكت قريتنا، وجعلت من بيوتنا أثراً بعد عين”.ويضيف وعيونه مغرورقة بالدموع، فقدت والدي منذ ثمانية أشهر، وحتى هذه اللحظة لا نعلم عنه شيئاً. كان بيننا وفي إحدى المساءات انحنى برأسه خارج الخيمة ليتكلم مع عمي الصحافي المعارض، ومنذ تلك اللحظة لم يعد والدي..علي الطفل الذي ينشغل على غياب والده انشغال الرجال الكبار، يروي تفاصيل اعتقال والده نقلاً عن رواية لابن عم والده، الذي شاهد عن بعد كيف جاءت أربع سيارات مدججة بالسلاح والشبيحة وقبضوا عليه، واقتادوه إلى مكان بقي سراً حتى هذه اللحظة.. تختنق الكلمات في فم علي يحاول أن يغدوا كبيراً بالكلمات، ولكن الطفولة تخون ملامحه، وتأبى إلا فضحه، يلملم قليلاً نفسه ليقوى على التعبير عما في داخله:” اشتقت لوالدي ولمدرستي التي فارقتها مرغماً، بعد أن أتت البراميل على بنائها الريفي الحجري، اشتقت للنوم آمناً دون سماع أصوات الانفجارات، ورائحة الدم والبارود.أجمل أبنائي“سأكومك أمام ابنك” هكذا صرخ أحد الشبيحة بوالدة الشهيد المسنة وهو يضع المسدس في رأسها، في اليوم الذي استشهد فيه ابنها قرة عينها.وفي هذه اللحظة، كان مئات من الأمن والشبيحة يقتحمون المنزل الكبير وينتشروا فيه ويفتشوا أدق الزوايا، لم يتركوا شيئاً لم يفتشوا فيه حتى أكواب الماء، تنهرهم متسائلة ماذا ستجدون في كوب الماء، فيرد أحدهم ساخراً يمكن مخبيين فيه مسدساً.وقف أحدهم في صدر المنزل وكال العائلة بأشنع الألفاظ والسباب ووجهها لعائلة منكوبة .. لنساءٍ وأطفال.. ليخرجوا بعدها من المنزل بعد أن نهبوا وسرقوا كل ما وجدوه في طريقهم...قبل استشهاده، كانت أمه عند كل تشييع شهيد تحاول منعه من الخروج من المنزل والمشاركة وتسد باب المنزل بجسدها الضعيف في وجهه خوفاً عليه، يرجوها قائلاً هذا شهيد يا أمي شهيد أتريدنني أن أقصر بحقه.تسمح له بالخروج على مضض ويبقى بالها مشغولاً، يتناهى إلى مسامعها صوت التشييع مختلطاً مع الرصاص تبكي بشدة وتهمس يا إلهي لا بد وأنهم سيعيدوه لي محملاً.... قدرٌ كانت تراه بعينيها وها هو قد تحقق...سابقاً كانت أمه في كل مرة تسمع نداءً على شهيد من مآذن الجوامع كانت تجهش بالبكاء، كانت تبكي الأمهات ويحترق قلبها عليهن وتدعو لهن بالصبر... ليتبين بعدها أنها كانت تبكي أولادها... كانت تقول متى سيأتي دوري بالبكاء... وعندما أتى دورها جفت دموعها...اليوم ليلاً كلما دخل عليها أحد من أولادها ليطمئن عليها تعود الدموع لوحدها ... “كان كل ليلة يطمئن علي ويدثرني.. كل ليلة...”أما أبوه في كل مرة يقف فيها للصلاة.. يختمها بالدعاء له كما اعتاد دائماً “الله يسلمه ويحفظه من كل سوء ويبعد عنه أولاد الحرام”... يستغرق في دعائه لينتبه لنفسه فجأة ... تعود الدموع مدرارة “اللهم ارحمه اللهم اكتبه شهيداً”“اشتريت له قميصاً جديداً” تقول أخته لكني لم أسمح له بأن يلبسه وقلت له اتركه للعام القادم... لابد وأنه يضحك علي الآن ويقول لي لم تتركينني ألبس قميصك الجديد وهاأنا ألبس أحلى الثياب في الجنة” تبتسم بحزن وتبكي.تتابع “كل يوم أجلس بجانب قبره وأبدأ حديثي معه كما كنت أفعل دائماً ثم “أفش خلقي” كما عودني دائماً يستمع لتفاهاتي وثرثرتي أتلفت يمنة ويسرة لأتأكد من خلو المكان وأسترسل... أنسى الوقت وأنا أتحدث لأنتبه لنفسي فجأة ياالله ماذا أفعل أبكي وأبكي حتى أرتاح أودعه وأعده بالعودة في اليوم التالي”.لا يخطر ببالي وأنا أسمع إلا فكرة أن الله يختار الشهداء من خيرة الشباب وأجملهم... تقول أمه “إنه أفضل أبنائي... أكثرهم قرباً مني... كان مطيعاً.. خلوقاً... كان أجمل أخوته... أطولهم”... لا تمل وهي تشرح صفاته... وتبكي بحرقة لأقول في نفسي هو كذلك لذلك هو شهيد.اغتصبوني وأنا مقيدة لم تتصور تغريد ذات العشرين عاماً، أن عملها في إغاثة النازحين بريف دمشق، سيعرضها للاغتصاب عدة مرات من قبل محققين في سجون النظام السوري.تم اعتقال تغريد في حي البرامكة، لدى عودتها من العمل، واستقبلها عناصر الأمن كالعادة بالضرب المبرح في فرع 215 بدمشق، وتقول تغريد: “ شعرت بالخوف الشديد من التفتيش، فأنا أحمل أوراقاً وبيانات للعائلات التي أساعد في إغاثتها”، قمت بتمزيق جميع الأوراق قطعاً صغيرة، ثم أكلت كل الأوراق وأخفيتها في جوفي، وكسّرت الذاكرة المتحركة “الفلاشة” التي كانت تحمل بيانات خطيرة أيضاً، ومن ثم ابتلعتها. دخلت تغريد إلى غرفة التفتيش وتم إجبارها على خلع ملابسها، ثم اصطحبها أحد العناصر إلى غرفة المحقق صاحب الستين عاماً، الذي كان أول من تحرش بها.نُقلت بعد ذلك، إلى فرع الأمن العسكري بمدينة حمص في تموز2012. وهناك تكررت حادثة الاغتصاب مرة ثانية .. تقول تغريد:” أذكر تلك الليلة جيداً في غرفة المحقق، لم ينقذني صراخي وبكائي، تمددت مرغمةً على سريره بيدين مكبلتين ورجلين متباعدتين، وما إن أنهى ما يريد حتى أرسلني إلى محقق ثانٍ، كبلني هو الآخر ولكن هذه المرة على كرسي مكتبه، وقام باغتصابي، حتى فقدت الوعي”.ترافق الاغتصاب والتعذيب في فرع الأمن العسكري بحمص مع “أكبر قدر من الإذلال”، وتؤكد تغريد أنهم تقصدوا حرمان المعتقلات من الفوط الصحية أثناء فترة الدورة الشهرية، وفي أحسن الأحوال كانوا يبعثون لهن قمصان المعتقلين المهترئة والمليئة بالقمل كي يستعملنها.خرجت تغريد في صفقة أبرمها النظام مع قوات المعارضة، تمت فيها مبادلة معتقلين سوريين بأسرى إيرانيين، ولم تجرؤ على إخبار أهلها بحادثة الاغتصاب حتى اللحظة. طبيب يبكي بحرقةقضيت 20 عاماً أعمل في المجال الطبي وأشاهد حالات شتى لكنني لم أبك بحرقة كما بكيت اليوم !!. كان قد فارق الحياة بين يدي طفل في العاشرة من عمره نعم إنه من عمر ولدي عمر الذي جاءني بعد طول انتظار.دخل والده غرفة العمليات مترجياً وباكياً: الله يخليك دكتور بلكي بيضل التاني عايش أخوه معو بغرفة العمليات.. تابعت عملي في غرفة العمليات وكان الفتى ينازع الموت..لم تفلح كل عمليات التنفس الصناعي والصدمات الكهربائية...لتبقيه قيد الحياة وبعد أن لفظ أنفاسه الأخيرة خرجت من الغرفة صامتاً.. فقال لي والده : والتاني مات..مات مو هيك دكتور فبكيت عندها بحرقة كما لم أبك في حياتي.. فجاء إلي والد الطفلين الشهيدين مربتاً على كتفي ودموعه لاتفارقه.. معلش دكتور الأعمار بيد الله...أنت عملت ياللي عليك وأكثر خلص الأعمار بيد الله.. قوم كمل شغلك وشوف باقي الحالات ووكل أمرك لله وخليك قوي.اغتصاب عائشةفي اليوم التاسع جاء السجان، وبهدوء طلب منها الاستحمام، كانت جملته بوابة سماء، لكنها السماء المؤدية إلى عالم الظلمات، قالت فيما بعد أنه لم يخطر في بالها ما حصل، ولم تستطع تصديق الأمر حتى اللحظة. استحمت، تركوها ساعة في الحمام. عندما خرجت من الحمام، لم يأخذها السجان إلى المنفردة القذرة، قال إن تحقيقاً ينتظرها. دخلت عائشة غرفة تحقيق النقيب حيدر، وكان ذلك في اليوم التاسع.بالكاد دخلت، رأته يجلس وراء مكتبه، وحولها اجتمع ثلاثة، بادر أحدهم بالسؤال الأول، وما إن همت بالإجابة، حتى تلقت ضربة حادة من الخلف، ثم غابت عن الوعي. كان هذا بعد الواحدة ليلاً بقليل، وفي تلك الساعات السوداء المعتمة، كموت مؤقت وحتى استيقاظ عائشة على قرصات وجع مؤلم في بطنها، كانت (ع.م) في عالم الأسرار والخفايا، فإلى جانب غرفة النقيب حيدر، كان هناك باب جانبي، لغرفة أخرى، هي غرفة نومه، موضوع فيها سرير، وكراسي للجلوس وطاولة مستديرة صغيرة، تبدو مثل غرفة نوم هادئة وطبيعية وبسيطة. بداية استيقاظها اعتقدت أنها في حلم، لكنها وما إن فتحت عينيها، ووجدت نفسها بتلك الوضعية الغريبة فوق سرير النقيب حيدر، حتى صرخت لأول مرة منذ تسعة أيام، صرختها الحادة تلك، جعلت السجان يدخل غرفتها مباشرة، وهي انتبهت في تلك اللحظة، أنها ممدة وعارية على سرير نظيف. وأن رجلاً يخاطبها باستحياء وهو يطلب منها ارتداء ملابسها على عجل. تقول إحدى المعتقلات التي خرجت من السجن بصفقة تبادل أيضاً مع أسرى وجثث لمقاتلين إيرانيين:” أطاعت عائشة الأوامر بطريقة ميكانيكية، نزلت من السرير لتخفي عريها. وخرج السجان من الغرفة، لم ينظر إليها بالمطلق. ومنذ تلك اللحظة كان يحدثها وهو ينظر إلى مكان آخر، صار صوته ووجوده حيادياً، وبقي هكذا لأكثر من أربعين يوماً قبل أن يتم نقلها لفرع المخابرات الجوية. لكنه لم يعد بها إلى المنفردة. وضعها ضمن زنزانة أكثر اتساعاً وفيها مجموعة من النساء، وخلال الأيام الثلاثة التي قضتها قبل أن يتحول ألم أسفل بطنها إلى سكاكين حادة، لم تنبس بحرف، كانت صامتة، وتنام طوال الوقت، حتى إنها لم تتناول الطعام. كانت تتخيل نفسها نائمة، ويتناوب على اغتصابها عدة رجال. لم تعرف إن كان النقيب حيدر فعلاً هو من قام وحده باغتصابها. أم تناوب رجال كثر على فعل ذلك.. من الساعة الواحدة ليلاً، وحتى السابعة صباح اليوم التالي حيث فارقت عائشة الحياة”. الموت غرقاًرحلة الموت كلفتهم بيع منزلهم الكائن في مدينة دمشق، دون أن يخطر لهم أن ألفي يورو، ستكون ثمناً بخساً لتحولهم إلى جثثٍ غارقةٍ في قاع البحركان خالد الناجي الوحيد من بين خمسين شخصاً سورياً غرقوا في عرض البحر. قرروا الهروب إلى أوروبا طامحين بغدٍ أفضل، لكن أمواج البحر حطمت أحلامهم، وغرقت عائلة خالد ”22 عاماً” أمام عينيه، قبالة سواحل أزمير.يقول خالد “سافرنا إلى تركيا والتقينا هناك، بمهربٍ يدعى أبو مدحت، اتفقنا على السفر إلى أثينا، تفاجأنا بالقارب الصغير الذي سنركبه برفقة عدد كبير من الناس، لكننا قررنا المتابعة، بعد مرور وقتٍ قصير، تعالت أمواج البحر وباتت تلعب بقاربنا، المكون من طابقين كعلبة الكبريت، تابعنا رحلتنا بينما عاودت الأمواج للارتفاع أكثر، إلى أن انقلب رأساً على عقب”.اثنتا عشرة ساعة من السباحة المتواصلة، أنقذت حياة خالد، لكنه لم يتمكن من إنقاذ والديّه وأخته الصغرى، يسترجع خالد ذكرياتٍ باتت ترافقه في كل مكان وزمان، يستحضر محاولته الفاشلة، في سحب أفراد عائلته إلى سطح الماء، يحكي عن فقدانه الأمل، وتعرضه لصدمةٍ شديدةٍ، كان يبتعد عن أهله شيئاً فشيئاً، ويراهم يغرقون بلا منقذ، ليتعاظم شعوره بالذنب.ويضيف: “مازلت أذكر جيداً يدا أختي، وهي تحاول رفع ابنها الصغير على وجه الماء، كانت تغرق بينما كان هو ميتاً، كانوا يسحبونني إلى القاع، كلما اقتربت منهم أو أمسكت بيد أحدهم لإنقاذه، تحولت هذه المشاهد إلى كوابيس تراودني كل ليلة، كيف لي أن أنساها؟، راحوا كل شي راح”.يعتبر خالد أن حياته توقفت في اللحظات التي عجز فيها عن إنقاذ عائلته، فلا معنى لها بموت أقرب الناس إليه، فهل هي ضريبة كوننا سوريين؟ أم أن الموت كتب علينا في كل مكان؟ أسئلةٌ يكررها.