في أجواء أمطار الخير والبركة التي تنعم بها البلاد.. انتبهتْ ذاكرتي على وقع المطر ليوم تلك الجنازة المهيبة التي شيعناها إلى مقبرة المحرق قبل ثلاث سنين بالضبط.. بعد صلاة الجمعة، وعلى وقع زخات المطر أيضاً.. نرفع فوق أكتافنا جارنا المعلم الذي غادرنا فجأة وبلا مقدمات..!
ذلك المصلي الذي أحبه رواد مسجدنا، مبادراً بالتحية، مبكراً إلى الصلاة، ومتحبباً إلى إخوانه، ومسابقاً إلى فعل الخير.
الأستاذ عبدالعزيز الساعاتي.. «أبوخالد».. توفي في مثل هذا الشهر الميلادي قبل ثلاث سنين خلت.
حاولت بعدها أن أجد قبره لأزوره وأدعو له عن قرب كما أحرص على الدعاء له من بعيد.. فما استطعت رغم المحاولات المتكررة.. ويبدو أنه رحمه الله لم يكن حريصاً أن يميز قبره بألواح وأسماء.
حتى أرشدني بعضُ أولاده إلى علامات تدل عليه.. قبور ثلاثة أطفال تحيط برمسه، وقطعة بلاط أبيض مكسور عند رأسه.. فقط لا غير..!
ومع ذلك حاولت أكثر من مرة لكي أجده فما أفلحت، رغم أنني أتذكر الجهة التي دفن فيها رحمه الله.
في المرة الأخيرة من المحاولات.. قبل أيام.. وبعد مشي طويل بين القبور.. وبحثٍ غير مجدٍ كالعادة.. وفي اللحظة التي هممتُ أن أنصرف خارجاً من المقبرة.. كأن شيئاً يلفتُ ناظري إلى قبر قريب جداً من مكان وقوفي.. وأخيراً إذا بي أعثر عليه بعد ثلاث سنوات.. ها هي قبور الأطفال، وهذه هي قطعة البلاط..!
اقتربتُ من القبر داعياً ومتأثراً.. ظللتُ أدعو له عند مكان رأسه.. قريباً منه.. متذكراً همساته الأخوية ونجواه الإيمانية التي خصني بها ونحن معتكفين في ليلة السابع والعشرين من رمضان في السنة التي قبض فيها رحمه الله.. كأنها كانت همسات مودع..
نظرت إلى قبره مرة بعد مرة.. وما راع انتباهي غير زحف الحشائش الخضراء على طرف قبره وعلى وسطه.. دون أن أجد قبراً آخر حظيَ بمثل تلك الحشائش بين كل القبور التي في بقعته..
فقلت في نفسي: هل هذه مصادفة لا علاقة لها بإيمان الرجل وخلقه وعمله الذي كان عليه؟!
ساءلت نفسي: هل ميزت تلك الأعشاب قبره لما تميز به في حياته من لين الجانب والابتسامة الدائمة.. نعم نحسبه هكذا والله حسيبه..
ولقد كان أول مصلٍّ يدخل المسجد لصلاة الفجر.. يسبقنا بنحو ساعتين وما يسبقه أحد..!
ولقد عاش حياته معلماً يربي الأجيال.. وها قد فرَّ أكثرُ خريجينا للأسف من هذه الوظيفة وزهدوا في التعليم..
أخيراً هذا هو قبر صاحبي؟! الذي كان إذا طرحت قضية تحتاج لتكاتف وبذل سخي رأيتُ أبا خالد فارس ميدانها.. لكن مع حرصه الشديد واشتراطه ألا يذكر ولا يعرف..
ما زلت أتأمل قبرَه والجوَّ المحيط به.. وأواصل في التساؤل.
هل يا ترى ما سبقنا إليه الساعاتي هو سلامة صدره.. فإننا والله ما عهدناه يوماً قد عاند أحداً.. أو خاصمه.. بل العكس من ذلك.. فلقد عرفناه مبادئاً إلى التسامح بكل رحابة حتى لمن هو أصغر سناً وأقلُّ فضلاً.
سلامٌ عليك يا جارنا وأخانا الكبير.
فلعلك تفوقت علينا بتلك الأفضلية التي أخبرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سئل: أيُّ الناس أفضل؟ فقال عليه الصلاة والسلام:
«كلُّ مخمومِ القلبِ، صدوقُ اللسانِ» قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: «هوَ التقيُّ النقيُّ، لا إِثمَ فيهِ ولا بغي، ولا غلّ وَلا حسد».
سلامٌ على الدنيا إذا لم يكن بها صديقٌ صدوقٌ صادق الوعد منصفا
عبدالله محمد الحمادي
إمام جامع الإسراء- ربيع الأول 1437هـ