اعتمدت البحرين في اقتصادها قبل اكتشاف النفط منذ ثلاثينات القرن الماضي على ما توفر لها من إمكانيات؛ أهمها الموقع الجغرافي، حيث اتجه كثير من أهل البحرين للعمل في التجارة فكان تجارها نقطة الوصل بين الهند والجزيرة العربية وبلاد الشام، فيما اتجه كثير من السكان إلى العمل في الغوص وتجارة اللؤلؤ، أما ما تبقى من السكان فكانوا إما عمالاً لدى التجار الكبار أو حرفيين أو مزارعين وغيرها من المهن التي كانت متوفرة آنذاك.
هذه الحياة البسيطة القليلة الموارد ساهمت في خلق ثقافة لدى عامة الناس، عنوانها الأساسي العمل والكد من أجل تحقيق حياة كريمة وتوفير المتطلبات الأساسية للحياة بعيداً عن مظاهر البذخ والإسراف.
الأستاذ عبدالله الذوادي يرى أن تدفق البترول في البحرين أدى إلى إحداث طفرات على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، ويستذكر الذوادي أن أهل البحرين كان من طبعهم العمل فيما توفر من مهن ووظائف، ولكن مع بدء اكتشاف البترول تحول كثير من البحرينيين، خصوصاُ في المناطق المجاورة لحقول النفط، إلى العمل في شركة بابكو، ورغم قلة الرواتب حيث كان راتب العامل (10 آنات) في اليوم، إلا أنهم وجدوا في العمل الجديد نوعاً من الاستقرار والانتظام في دفع المعاشات.
ويضيف الذوادي أن الحياة القاسية وقلة المردود المادي التي كان يعيشها العاملون في مهنة الغوص، ساهمت في انتقال الكثيرون إلى العمل في حقول النفط، لما فيها من ضمانة واستمرارية.
في منتصف خمسينات القرن الماضي ذهب الكثير من أهل البحرين للعمل في شركة أرامكو السعودية، حيث معدل الرواتب أعلى مما كانوا يتقاضونه في البحرين، ولذلك نشأت طبقة متوسطة في البحرين ساهمت في إدخال الكثير من التغييرات على الحياة الاجتماعية آنذاك، حيث بدأت تظهر في البحرين الكثير من البيوت الحديثة عوضاً عن البيوت المقامة من سعف النخل ومواد البناء الأولية. إضافة إلى زيادة الوعي بضرورة التعليم، خصوصاً مع افتتاح المزيد من المدارس الحكومية في مختلف مناطق البحرين،
هذا التحول كان له أثر آخر على الوضع الاقتصادية بشكل عام أيضاً، فبدأت عجلة التجارة وتم افتتاح العديد من المحلات والمصارف والوكالات التجارية المختلفة، وبدأ الانتقال إلى بداية حالة الرفاهية، خصوصاً وأن أسعار السلع الغذائية والخدمات كان منخفضاً جداً.
وفي هذا الصدد يستذكر الذوادي أسعار بعض السلع الغذائية آنذاك، حيث كان تباع الأربعة أرطال (2.5 كيلو تقريباً) من سمك الهامور بما يعادل حوال 100 فلس بحريني، أما الرز فقط كان يباع الـ40 كليوغراماً بما يعادل 10 روبيات. ويضيف الذوادي أنه ورغم رخص أسعار المواد الغذائية فلم يكن هناك ترف كبير في استخدامها، فقد كانت العائلات تشتري ما تستهلك فقط ودون زيادة.
ظل الوضع قائماً إلى عام 1956، حيث قامت شركة بابكو بتسريح أعداد كبيرة من عمالها في إطار إحلال التكنولوجيا الحديثة في العمل بدل الأيدي العاملة، فوقعت الاضطرابات في عموم البلاد، ولكن إنشاء شركة ألمنيوم البحرين (ألبا) ساهم في امتصاص هذا الغضب الشعبي، حيث قامت الشركة باستقطاب العمال في مشاريعها المختلفة، خصوصاً وأنها قامت بإنشاء عدد من الشركات الفرعية مثل (رذاذ الألمنيوم) (بلكسكو) (جارمكو).. وغيرها من الشركات.
ويرى الذوادي أن التحول الكبير في المجتمع كان واضحاً للغاية، خصوصاً توجه الكثيرين إلى الحياة الاستهلاكية، حيث بدأت تظهر في البحرين الأنواع الحديثة من السيارات وزيادة استخدام التكنولوجيا الحديثة (الراديو والتلفزيون ....)، وبدأ الناس ينكبون على الاهتمام بالمظاهر الاستهلاكية دون التفكير في مشاريع استثمارية حقيقية أو حتى الادخار.
ورغم أن التعليم والصحة كانت خدمة مجانية من قبل الدولة، إلا أن زيادة الدخول النفطية أدت إلى تحسين جودة تلك الخدمات، فتم إنشاء المزيد من المدارس للذكور وللإناث، وساهمت شركة بابكو أيضاً في إنشاء عدد من المدارس في قرى البحرين المختلفة، وتم افتتاح مجمع السلمانية الطبي والاهتمام في إنشاء المراكز والعيادات الطبية في مختلف مناطق البحرين، مع استمرارية تقديم هذه الخدمات بشكل مجاني للجميع.
ويستذكر الذوادي أن البحرينيين كانوا يعتمدون على أنفسهم في تأمين السكن، حيث كانت البيوت تستوعب العائلة كاملة، ولكن مع بدء مشروع مدينة عيسى قبل نهاية ستينات القرن الماضي، اعتمد معظم أهالي البحرين على المشاريع الإسكانية الحكومية في توفير البيوت لهم، وهو ما ساهم في تزايد الطلب على السكن وقلل الاعتماد على الذات في توفيره.
وينوه الذوادي إلى أن العمل لم يكن يقتصر على الذكور والكبار فقط، بل كانت الإناث أيضاً يقمن ببعض الأعمال لمساندة عائلاتهن على مواجهة ظروف الحياة الصعبة، ويذكر الذوادي أن السيدات كن يعملن كمرضعات أو مربيات أو عاملات في منازل العائلات الكبيرة مقابل 10 روبيات شهرياً، فيما يتجه الأطفال وطلبة المدارس إلى العمل في المحلات التجارية أو لدى العائلات أو بيع بعض الأشياء البسيطة في الأسواق خلال فترة إجازة الصيف.
اليوم، ومع تغيير الكثير من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وزيادة الاعتماد على الدولة، تحول المجتمع البحريني إلى مجتمع استهلاكي متمرد على الوظائف، كما يصفه الذوادي، ويضيف أن الدولة «دلعت الناس»، وبالتالي فقد أصبح هناك «تمرد» على بعض الوظائف والمهن، ولذلك تجد الشباب يطمعون بالحصول على بعض المساعدات من قبل الدولة أو الاعتماد على أولياء أمورهم بدل البحث عن عمل جاد يوفر لهم حياة كريمة ويغنيهم عن الاعتماد على الغير.
ويختتم عبدالله الذوادي حديثه بالإشارة إلى أن الانخفاض الكبير في أسعار النفط والتوجه الحكومي بتوجيه الدعم وإيجاد مصادر للدخل غير نفطية سيساهم في حدوث صدمة مجتمعية، خصوصاً وأن البحرينيين عاشوا لعقود طويلة ضمن نظام اقتصادي اجتماعي مستقر، ويعتمدون على ما يقدم لهم من الدول من خدمات مجانية سواء كانت في التعليم والصحة أو الدعم المباشر وغير المباشر للعديد من السلع الاستهلاكية ومشتقات البترول وغيرها..