طارق العامركل المؤشرات كانت تقول إن بركان الغضب السعودي سينفجر، وإن الرياض لن تصبر على نظام الملالي أكثر من ذلك، بل إن البعض يقولون إن قطع العلاقات مع طهران تأخر كثيراً بسبب رغبة الرياض في ترك ما أمكن من أبواب مفتوحة أمام احتمال أن تلعب إيران دوراً أكثر تعقلاً في شؤون المنطقة.لكن الحماقة أعيت من يداويها، وحماقة النظام الإيراني تجاوزت الحدود والأصقاع والمجال الجوي للأعراف، ولم يتعلم النظام الفارسي من التاريخ، خصوصاً في تعاطيه مع جيرانه.دعنا قبل أن نبدأ نسلط الضوء على ما حدث..في 2 يناير قامت المملكة العربية السعودية بتنفيذ حكم الإعدام ضد 47 إرهابياً بينهم الشيخ الشيعي نمر باقر النمر، وذكرت وزارة الداخلية في بيانها أن المنفذ بحقهم حكم الإعدام، والذين وصفتهم بـ»الفئة الضالة»، اعتنقوا الفكر التكفيري، ونفذوا عمليات تفجير وقتل.وأضاف البيان أن معظم من أعدموا ضالعون في سلسلة هجمات، نفذها تنظيم القاعدة، في الفترة من 2003 إلى 2006، موضحاً أن بين من تم إعدامهم 45 سعودياً ومصرياً واحداً وتشادياً.واستعرض بيان الداخلية السعودية عشرات العمليات الإرهابية للمنفذ فيهم حكم الإعدام، ومن بينهم نمر النمر، الذي كانت المحكمة الجزائية أكدت، في مارس 2015، على حكم إعدامه، بعد إدانته بـ»إشعال الفتنة الطائفية» و»الخروج على ولي الأمر».لكن ذلك لم يعجب «ملالي قم» وعلى الفور خرجت إيران وأذنابها لتندد وجاء أول رد رسمي من إيران على لسان نائب وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان وقال: «إعدام الشيخ النمر سيكلف السعودية ثمناً غالياً». ثم بعدها خطب المرشد الإيراني علي خامنئي أمام رجال دين في العاصمة الإيرانية وقال «مما لاشك فيه أن إراقة دم هذا الشهيد المظلوم من دون وجه حق ستؤثر بسرعة وأن الانتقام الإلهي سيطال الساسة السعوديين».مساء 2 يناير هاجم متظاهرون كان من بينهم رجال دين وعناصر من الحرس الثوري مبنى السفارة السعودية في طهران والقنصلية في مدينة مشهد، في انتهاك صارخ للمواثيق الدولية، وقام المتظاهرين بإلقاء قنابل حارقة باتجاه مبنى السفارة وسرقة محتوياته، وكشفت صور على مواقع التواصل الاجتماعي عمليات تدمير ونهب وعبث بمحتويات مقر السفارة عقب اقتحامه، وكل ذلك تم تحت أنظار رجالاً الأمن الإيرانيين مما يؤكد أن عملية اقتحام السفار والقنصلية لم تكن فوضوية، وإنما كانت منظمة ومرتبة ومن جهات رسمية.وربما جاء مركز ستراتفور الأمريكي للدراسات ليؤكد ما نقوله فقد أصدر المركز تقريراً أكد فيه أن السلطات الإيرانية هيأت الظروف أمام اقتحام إيرانيين السفارة السعودية في طهران.وفي التفاصيل وبحسب التقرير فإنه وبعد دخول العديد من المحتجين إلى مكاتب السفارة السعودية وسلب ما فيها ثم إضرام النار في مبناها، تحرّكت الشرطة الإيرانية لتفريق المتظاهرين واعتقلت 40 شخصاً فقط.بالتالي، فإنّ السلطات الإيرانية تقاعست عن حماية السفارة السعودية في طهران ولم تتدخل إلا بعدما بلغ غضب المحتجين ذروته وهو ما يؤكد بحسب ستراتفور أن إيران وفرت بيئة مناسبة للاعتداء على مقر البعثة الدبلوماسية السعودية في طهران.لكن ما الذي استدعي هذا العمل وهل بالفعل نمر النمر رجل دين «مجاهد» وخلاصة الاعتدال والسلمية أم مذنب وبريء؟دعونا نلقي الضوء على السيرة الذاتية لنمر النمر: إيران وصفت النمر بأنه «عالم مجاهد» و«آية الله» بجانب كتاب من الألقاب التي تسبغ على المجتهدين من أتباع المذهب الجعفري، لكن الواقع أن النمر ليس «عالماً مجاهداً» ولا «آية الله» وتكفي زيارة موقعه للتأكد من ضحالة دوره الديني والمرجعي الذي تكشفه ندرة مؤلفاته. والنمر، المولود في العوامية محافظة القطيف شرق السعودية، والبالغ من العمر57 عاماً كان أحد المنظرين الشرعيين من الطائفة الشيعية لأعمال الشغب والعنف التي شهدتها بلدة العوامية، أنهى دراسته النظامية في بلدته عام 1980، ثم هاجر مباشرة إلى مدينة «قـم» في إيران، بعدها التحق بحوزة علمية في سوريا.وحين عاد من «قـم» بدأ ينشط في المجال الاجتماعي والسياسي، حتى أصبح خطيباً لجامع «العوامية»، الذي قام بتحويله إلى مقر سياسي أسبوعي يلقي من خلاله خطباً سياسية تحرض على الدولة والصحابة والأمن والاستقرار، ومن خلاله أطلق عدة مطالبات تتوافق مع الأهداف الخارجية للميليشيات المتطرفة والإرهابية والدول التي تعادي المملكة وتسعى لإثارة الفتن، وفي مارس 2009 وجه انتقادات عنيفة للحكومة بسبب أحداث البقيع وهدد الحكومة السعودية «بانفصال القطيف والأحساء وتشكيلهما دولة شيعية مع البحرين». الحكومة السعودية في بادئ الأمر كانت تغض الطرف عما يفعله ويقوله ومنحته عدة فرص لتغيير سلوكه، لكن نشاطه ضد الدولة ومصالحها ازداد في فترة ما سمي بـ»الربيع العربي 2011» وبالأخص في أحداث «البحرين»، وهو ما يعني أنه كان يقف في صف الجماعات الإرهابية والدول التي تحارب المنطقة وأمنها والسعودية على وجه الخصوص؛ مما دفع الشباب المغرر بهم إلى حمل السلاح ضد رجال الأمن، وقتل بعضهم في نقاط التفتيش، وإغلاق الشوارع وإحراق «العجلات» والخروج في مسيرات محظورة ضد الدولة.ألقت السلطات السعودية القبض على النمر في يوليو 2012، بعد ملاحقته وإصابته بطلق ناري في رجله، وأعلنت الداخلية السعودية حينها أنها اعتقلت «أحد مثيري الفتنة»، ومن معه «حاولوا مقاومة رجال الأمن، وقد بادر بإطلاق النار والاصطدام بإحدى الدوريات الأمنية أثناء محاولته الهرب».وقد قدم إلى القضاء، وقد حكمت المحكمة الجزائية بالرياض بإعدام النمر «تعزيراً» بعد اتهامه بـ»زرع الفتنة وزعزعة الوحدة الوطنية».وفي 25 أكتوبر 2015 صادقت المحكمة العليا ومحكمة الاستئناف في السعودية على حكم المحكمة الجزائية بالقتل تعزيراً بحق نمر النمر، بعد إدانته بإشعال الفتنة الطائفية وتأييده لأحداث الشغب، والخروج على ولي الأمر وتشكيل خلية إرهابية هدفها قتل رجال الأمن ببلدة العوامية في محافظة القطيف.إذاً من الواضح أن نمر باقر النمر ليس «عالماً مجاهداً» و»آية الله» بل هو إرهابي، ولكن لماذا ثارت نيران إيران بعد إعدامه؟لأن وبمنتهي البساطة، الكيان الفارسي المحتل أراد خلق حسن نصرالله آخر في السعودية، وتنفيذ مخطط السيطرة على الحرمين المكي والمدني من خلال النمر، لذلك كان لابد من الدرس السعودي، ولا أعتقد أن أحداً يمكن أن يشكك في أن التحول السياسي السعودي والخروج على الخط التقليدي المتبع، ليس سوى بداية تلقين الرياض درساً آخر لـ»عمائم قم»، فالمشهد السياسي الهائل والرهيب وتسونامي طرد السفراء الإيرانيين من الرياض والمنامة والخرطوم وجيبوتي والصومال، وتخفيض حجم التمثيل الدبلوماسي لأبوظبي في طهران، واستدعاء قطر والكويت لسفرائهم من طهران، وقيام مصر بفرض قيود على سفر المصريين إلى إيران، بجانب إدانة مجلس الأمن الدولي «بأقصى حزم ممكن الاعتداءات» على البعثتين الدبلوماسيتين السعوديتين في طهران ومشهد، وجاء في البيان أن المجلس «أعرب عن قلقه العميق أمام هذه الاعتداءات»، وطلب من طهران «حماية المنشآت الدبلوماسية والقنصلية» طبقاً لالتزاماتها الدولية، وذلك على أثر غضب قيادي وشعبي سعودي كبير من التصرفات الرعناء والحمقاء للنظام الإيراني، أعطى درساً لـ»ولي الفقيه» أن غضب السعودية ليس أثراً فجائياً أو عرضياً، بل له تبعات، أولها، تضامن شعوب الوطن العربي والإسلامي مع بلاد الحرمين، وثانيها، حظر سفر السعوديين إلى إيران ووقف كل العلاقات التجارية معها.السعودية لديها حضور عالمي مؤثر، والعالم كله يحسب للسعودية حساباً حين ترضى، وألف حساب حين تغضب، لأنها دولة مؤثرة سياسياً وبقوة على المستوى الإقليمي ولها ثقلها الدولي سياسياً واقتصادياً، وهي عمود ومحور للتوازن والاستقرار الإقليمي والعالمي، وهذا ما تدركه إيران أيضاً، فقد رفضت المملكة في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق بوش الذهاب إلى مغامرة عسكرية ضد إيران، ووزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل قال قبل زيارة بوش الأخيرة للمملكة ليس بيننا وإيران ما يستدعي دعم عمل عسكري ضدها.وفي إحدى مقالاته ذكر الكاتب جهد الخازن أن الأمير نايف حكى لي في مكتبه في الرياض قصة الهجوم على مقر للأمريكيين في الخبر سنة 1996 الذي قتل فيه 19 جندياً أمريكياً. الهجوم نفذه حزب الله الشيعي السعودي، والسلطات السعودية اعتقلت المنفذين وثبت أنهم تدربوا في إيران التي زودتهم بالسلاح والمتفجرات. الأمير نايف رفض أن يسلم الأمريكيين الأدلة، وإنما حملها إلى طهران وعقد اتفاقاً تعهد الإيرانيون بموجبه بعدم القيام بأي إرهاب ضد السعودية داخل أراضيها أو خارجها في مقابل إنقاذهم من عمل انتقامي أمريكي، هذا الاتفاق نفـذ وأشرف عليه في السنوات الأخيرة الأمير محمد بن نايف، ولي العهد الآن. لم يكن الكيان الإيراني المحتل يتصور أن غضب السعودية سيحول ليله إلى كابوس، ويحدث هزة دولية غير مسبوقة.. لم يكن يتصور «الولي الفقيه» أن غضب الرياض سيهز الأرض ويربك العالم ويجعلها تغضب عليه.. لم يكن يتصور الفارسي أن غضب «سلمان الحزم» سيغضب المنامة، والخرطوم، وأبوظبي، والقاهرة، وإسطنبول، وإسلام آباد، والدار البيضاء، وبيروت، وتونس، وبروكسل، وواشنطن، وبرلين، ولندن.والقادم أكثر..استناداً للبروتوكول الثالث من اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961 جراء خرق إيران لقواعد القانون الدولي، ونكوصها عن الوفاء بالتزاماتها الدولية في حماية مقار البعثات الدبلوماسية، فمن حق السعودية إقامة دعاوى جنائية أمام محكمة العدل الدولية ضد إيران، ودون انتظار موافقة طهران أو النظر لاعتراضها بعدم اختصاص المحكمة، ومن شأن ذلك أن يزيح القناع، ويؤكد للجميع أن إيران دولة ذات سجل طويل وحافل في التعرض للبعثات والمقار الدبلوماسية، وهو ما سيضعها في حرج شديد دولياً، فضلاً عن أن القرار وجد قبولاً ودعماً عربياً، وهو ما سيضع إيران في مواجهة ليس مع السعودية وحدها، بل في مواجهة مليار ونصف مسلم.
970x90
970x90