سماح علام
من أرض دلمون .. من أرض هام بها جلجامش ووصفت بالخلود.. خرجت امرأة سيظل تاريخ البحرين محتفظاً باسمها بين صفحاته لتجسد «سمة الخلود» فيه. في عام 1930 ولدت طفلة محرقية أبت إلا أن يكون لحياتها مكان في الذاكرة البحرينية، وفي الأمس رحلت لتترك بصمتها في تاريخ البحرين ولترقد بسلام في مسقط رأسها الذي دفنت فيه، مخلفة ورائها إرثاً هائلاً من العمل والخير والحب والاحترام.
امتد عمرها ليكون أشبه بالمدرسة الزاخرة بالدروس والعبر والمعاني، فمنذ أن كانت فتاة حلمت بمستقبل أفضل لقريناتها من بنات هذا الوطن، تطلعت لأيام أكثر جمالاً، وسعت إلى تشكيلها من خلال أمل وطموح لا يعرفان الحدود.
ومن أجل هذا الطموح أفنت عمرها من فكرة إلى مشروع ، ومن عمل خيري إلى آخر تنموي، لتتوج مسيرتها بإنجاز تلو آخر أكبر منه وأكثر منه قيمة.
هي الشيخة لولوة ابنة الشيخ محمد بن عبدالله بن عيسى آل خليفة، والدتها الشيخة نيلة بنت خالد بن علي آل خليفة، تزوجت عام 1940 من الشيخ سلمان بن محمد بن عيسى آل خليفة الذي وصفته بالصديق والداعم لعملها، هي امرأة متفردة، سيحفظ اسمها التاريخ، لأنها رمز العطاء.
بدأ طموحها يتبلور .. وترجمت الآمال بخطوات عملية على أرض الواقع، إنجازات أقل ما توصف به بأنها ستجد لها مكاناً وارفاً في تاريخ البحرين، فالشيخة لولوة تسجل بمسيرة حياتها جزءاً من تاريخ بلد أعطى المرأة فبادلته العطاء بالوفاء.
عطاء لم ينضب
ولدت فكرة إنشاء جمعية تنظم تحت مظلتها الجهود النسوية بعد تجربة النادي النسائي، حيث عملت الشيخة لولوة بنت محمد على تأسيس جمعية رعاية الطفل والأمومة، والتي تعد من أوائل الجمعيات النسائية في البحرين والخليج العربي، وكان ذلك عام 1959. بحب الوطن وبرغبة في خدمة المجتمع، وبتنوع أشكال العطاء، كان عمل الشيخة لولوة بنت محمد متواصلاً، ومن أجل كل ما قدمته نالت في عهد الشيخ عيسى بن حمد جائزة الدولة التقديرية، ومن خلال مشاريعها التطوعية أرست الشيخة لولوة بنت محمد دعائم قوية للعمل الاجتماعي، فقد اهتمت بالأسرة وسعت إلى توفير احتياجاتها بهدف تنمية المجتمع، وعملت جمعيتها على تنظيم الكثير من الأنشطة منها حلقات دراسية ونقاشية حول المرأة والشباب والأسرة والعمل، إضافة إلى مبادرات تكريم شخصيات بارزة في المجتمع واحتضان بعض عروض الأزياء والمهرجانات وأطباق خير والمشاركة في بعض الفعاليات الخاصة بالمناسبات الوطنية.
سيرة بين الثقافة والإعاقة والطفولة
مثلت الثقافة محطة هامة عند الشيخة لولوة بنت محمد فقد تنوعت أنشطة جمعيتها بما يبين عمق هذا الاهتمام.. فجمعية رعاية الطفل والأمومة بإدارة الشيخة لولوة بنت محمد قامت بتدشين مركز الرعاية الثقافي كإضافة نوعية لعملها، وفي الإطار نفسه نظمت الجمعية على مدى سنوات أسبوعاً ثقافياً، كان يتضمن العديد من الفعاليات المتنوعة. كان للمعاقين مكان بارز على قائمة أولويات الشيخة لولوة بنت محمد آل خليفة، فمعهد الأمل ترجمة لهذا الاهتمام، حيث استقطب العديد من المهتمين في مجال العمل التطوعي للاطلاع عليه، ومن هذه الجهات رؤساء ورئيسات جمعية الهلال والصليب الأحمر العربية، كما اختيرت الشيخة لولوة بنت محمد آل خليفة لتكون عضوة في اللجنة الوطنية للمعوقين.
الطفل البحريني حلم الغد المشرق لأن يكون الأكثر تطوراً ورفاهاً، فالشيحة لولوة بنت محمد آل خليفة وضعت الأطفال نصب عينها منذ توجيهها لتأسيس روضة الأمل وصولاً إلى سعيها لرفع مستوى الرياض وتعزيز دورها في تنشئة الأطفال الذين هم ذخيرة المستقبل.
ولم يقتصر اهتمامها على العمل التطوعي والخيري بل كان لعملها النسوي دور هام في تغيير واقع المرأة البحرينية، فمساعيها الحثيثة كانت تصب دائماً في تجاه تطوير المرأة ، وإيماناً منها بأهمية توحيد الجهود النسوية، فقد انضمت جمعية رعاية الطفل والأمومة للاتحاد النسائي العربي العام في 1973 والذي تأسس بدوره عام 1944، كانت الشيخة لولوة بنت محمد مؤمنة بضرورة تحرير المرأة من العوائق والاعتراف بحقوقها ومساواتها مع الرجل في كافة الميادين.
سنوات عامرة بالمشاركات الفاعلة
شاركت الجمعية بقيادة فقيدة البحرين الراحلة في مطلع الثمانينات في مؤتمر الاتحاد النسائي العربي ببغداد في أكتوبر من عام 1981، كما تواجدت في دورة حول المهارات القيادية في بغداد في ديسمبر 1983، وحضر وفد الجمعية في الاجتماع الرابع للاتحاد النسائي العربي في يناير عام 1984 في الخرطوم، والاجتماع العام لنساء العراق في يناير 1985، لحقه في العام نفسه المشاركة في وفد الاتحاد النسائي العربي لحضور محفل المنظمات غير الحكومية المنعقد في نيروبي.
وكل هذه المشاركات كانت ثمار حرص الشيخة لولوة بنت محمد على إدماج الجمعية في المحافل الخارجية وتحديداً الاتحاد النسائي العربي.
بعد هذه المشاريع الهامة والعمر الطويل لجمعية رعاية الطفل والأمومة، احتفلت الجمعية باليوبيل الفضي في عام 1985، وفيه أعلنت الشيخة لولوة انتهاء حقبة وبدء أخرى جديدة من العمل التطوعي والاجتماعي النوعي بمزيد من الآمال والطموح لخير البحرين.
وفي عام 1986 شاركت الجمعية في 4 محافل عنيت بالمرأة إلا أن مشاركتها في الدورة التدريبية لقيادات أعضاء منظمة G.A.W.F في سبتمبر 1986 كان له بعدا آخر.
أما ديسمبر 1986 فقد احتفلت جمعية رعاية الطفل والأمومة باليوبيل الفضي لتولي حضرة صاحب السمو الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة أمير البلاد الراحل مقاليد الحكم، حيث احتضن معهد الأمل للأطفال المعوقين هذا الاحتفال إحياءً لذكرى هذه المناسبة الهامة.
واستكمالاً لمشوار العمل التطوعي المتنوع كماً ومضموناً، كان لجمعية الرعاية التي أدارتها الشيخة لولوة بنت محمد مشاركات أخرى هامة، ففي 1987 شاركت الجمعية في عدة مؤتمرات ولقاءات خارجية في المملكة الأردنية الهاشمية والعراق وغيرها، وفي عام 1989 تولت الشيخة لولوة بنت محمد مهمة الأمينة المساعدة لشؤون الإعلام بلجنة التنسيق في المؤتمر الإقليمي الخامس للمرأة في الخليج والجزيرة، والذي ناقش وضع المرأة وكيفية الإسهام في تطوير واقعها.
قالت الشيخة لولوة في كلمة لها بمناسبة يوم المرأة الذي يوافق 8 مارس: «لقد عرف الجميع أن للمرأة دوراً كبيراً وهاماً في حضارة الأمم، فهي المسؤولة عن تربية وتنشئة الطفل.. لقد عرفنا المرأة رمزاً للوفاء ونبعاً للحنان، وشعلة لا تنطفئ، فهي تحترق من أجل إنارة طريق أولادها وزوجها».
بصمة سيحفظها التاريخ
قدمت الشيخة لولوة في وقت لاحق ندوة بعنوان الاتحاد النسائي العربي ماضية وحاضرة بمناسبة مرور ثلاثة وأربعين عاماً على تأسيس الاتحاد النسائي العربي العام، حيث أقامت جمعية رعاية الطفل والأمومة في مقرها بالسلمانية آنذاك ندوة متخصصة تحت هذا العنوان.
هنأ الأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة الشيخة لولوة بنت محمد نظير ترأسها مؤتمراً إقليمياً عن المرأة، تضمن مندوبي كافة الجمعيات النسائية والخيرية شمل تغطية واقع المرأة وكيفية الحفاظ على الحرف إضافة إلى عرض بحوث ودراسات حول المرأة، كما وترأست أيضاً المؤتمر الإقليمي الخامس للعمل النسائي في الخليج والذي أقيم تحت رعاية الأمير الراحل طيب الله ثراه الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، والذي أقيم تحت شعار الأسرة واقع وتطلعات نحو مستقبل أفضل للأبناء.
كان عملها واضحاً ذا بصمة لا تمحى في تاريخ البلاد، وتقديراً لها فقد منحها صاحب السمو الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة أمير البلاد الراحل _طيب الله ثراه – بقصر الرفاع جائزة الدولة التقديرية والتشجيعية، وكان ذلك في 24 من أبريل 1988.
وفي مايو من العام ذاته، قامت وزارة الإعلام بتكريم رائدات العمل الاجتماعي التطوعي وهن الشيخة لولوة بنت محمد آل خليفة بصحبتها سلوى العمران وفائقة المؤيد، وقد تم التكريم في النادي الأهلي بالماحوز الذي حضره وزير الإعلام السابق طارق عبدالرحمن المؤيد.
عمل يعلو مفهوم الروتين
وصف عمل الشيخة لولوة بنت محمد بالعمل الذي يعلو مفهوم الروتين والكسب الشخصي، ولهذا النهج أكد صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزراء الموقر، أكد اعتزازه بالإنسان البحريني وإيمانه بقيمة ومبادئ العمل الاجتماعي، واستقبل في عام 1988 أبناء الوطن الحائزين على جوائز الدولة التقديرية والتشجيعية، تقديراً منه لدورهم، وكانت الشيخة لولوة بنت محمد في مقدمات الحضور.
وفي 3 من يناير عام 2002 قامت الشيخة سبيكة بنت إبراهيم آل خليفة قرينة عاهل البلاد بترشيح الشيخة لولوة بنت محمد لتمثيل البحرين في احتفالية كبيرة تقام بدولة الإمارات العربية الشقيقة في فبراير 2002 بدعوة من الشيخة فاطمة بنت مبارك قرينة صاحب السمو رئيس الدولة ورئيس الاتحاد النسائي رئيسة الاتحاد النسائي لتكريم رائدات الأعمال.
والتي بدورها قدمت للشيخة لولوة رسالة شكر وتقدير نظير عملها ومساهمتها في النهوض بالعمل النسائي واعترافاً بدورها في هذا المجال، وكان ذلك في 1 فبراير 2002.
لم يكن هذا العمل الدؤوب والإيمان بأهمية النهوض بالمرأة إلا أن يكون محل تقدير، فنظير عملها المتواصل ومسيرتها الخيرة نالت الشيخة لولوة بنت خليفة وسام العمل التطوعي خلال الاحتفال بالرئدات العربيات في الوطن العربي، وفي 18 مارس 2002، تشرفت الشيخة لولوة باستلام رسالة شكر وتقدير من لدن صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة، واعتبر سموه أن هذا التكريم هو تكريم لكل النساء البحرينيات متمنياً لها العطاء الوافر في جميع مناحي الحياة.
إنه غيض من فيض مسيرة عامرة بحب الوطن، لا تتسع الأسطر لوصفها، إنها سنوات مديدة من العطاء والتفرد النابع من الإيمان بقدرة المرأة على أن تكون فاعلة ومختلفة، الشيخة لولوة بنت محمد ودعتنا بالأمس، ليبقى عمرها شاهداً على قصة كفاح وعطاء ستسجل بأحرف من نور في تاريخ مملكة البحرين، ولتبقى أيقونة نفيسة في فضاء العمل النسوي ليس في البحرين والخليج فحسب بل في العالم العربي بأسره، «رحم الله الشيخة لولوة بنت محمد بن عبدالله بن عيسى آل خليفة أرملة المرحوم الشيخ سلمان بن محمد بن عيسى آل خليفة طيب الله ثراه، وأسكنها فسيح جناته، وألهم ذويها الصبر والسلوان».