بقلم - محمّد محمّد الخطابي: بمناسبة انطلاق فعاليات معرض البحرين الدولي الخامس عشر للكتاب، الذي افتتحته مؤخراً وزيرة الثقافة الشيخة ميّ بنت محمد آل خليفة، بالإنابة عن صاحب السموّ الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزراء، والذي يأتي هذا العام “كأحد الإسهامات في أنشطة اختيار المنامة عاصمة للثقافة العربية لعام 2012” على حدّ تعبير الوزيرة. بمناسبة هذه التظاهرة الثقافية الكبرى، نقدّم للقاري الكريم سياحة ممتعة في عالم “ الكتاب” هذا الخلّ الوفيّ الذي رافق الإنسان منذ أقدم العهود، وما زال يلازمه ويصاحبه إلى يومنا هذا، في عصر التطوّر التكنولوجي الهائل، وفي دنيا الإعلاميات وما تطلع به علينا كل يوم من اختراعات واستنباطات متطوّرة ومحيّرة في عالم الحواسيب، والعقول الإلكترونية، والإنترنت وشبكاته العنكبوتية المتشعبة، واستعمالاته المذهلة من ذاكرة كومبيوتر والمكتبة الإلكترونية والفايسبوك والتلفاز وسواه من الجديد المتواتر الذي ما انفكّ يفاجئنا به هذا العصر العجيب في كل وقت وحين. الكتابة والكتاب تؤكّد معظم المراجع التاريخية أنّ الكتابة بدأت في العهود الغابرة من الأزمان في شكل صور تدلّ على معاني ومدلولات ملموسة في الحياة اليومية للإنسان القديم. وتمّ العثور على كثير من النقوش والصور والرموز التي تدل على معاني ومفاهيم معيّنة في منطقة الهلال الخصيب، خصوصاً في الحضارة السومرية قبل حوالي ستّة آلاف سنة. وقد عرفت الكتابة عندهم بالمسمارية أو الإسفينية. كما تمّ العثور في مناطق أخرى من العالم على بعض الرسوم والصور مثل تلك التي عثر عليها في كهوف “ألتميرا “في إسبانيا، و«لاسكو” في فرنسا أو رسوم” ناسكا “في البيرو عند شعوب الأنكا والموشيك وسواها من المناطق الأخرى. وفي مرحلة متقدمة من التاريخ البشري جاء الفنيقيون وابتكروا الكتابة مستعينين بالسومرية والمصرية القديمة. ثم جاء الإغريق وطوّروا أبجديتهم نقلاً عن الفنيقيين. ثم أصبحت عندهم أبجدية خاصة بهم والتي أصبحت فيما بعد الأبجدية الخاصة بالغرب. ثم جاء الرومان وأخذوا الأبجدية الإغريقية. وقد سادت اللغة الرومانية واللاتينية في مختلف الأصقاع الأوروبية بعد سيطرة الإمبراطورية الرومانية على بلاد الغرب. وجاءت الكتابة العربية متأخرة، وبدأت تنتشر في الأصقاع بعد أن قرّر الخلفاء الراشدون تدوين القرآن الكريم على عهد الخليفة عثمان بن عفّان، ثم انتشرت الكتابة العربية انتشاراً واسعاً مع انتشار الدين الإسلامي الحنيف. والأبجدية العربية مشتقة من الكتابة السامية التي اشتقت بدورها من الأبجدية الفينيقية والتي وصلت العرب عن طريق الأنباط الذين تأثّروا بحضارة الآراميين وطريقة الكتابة عندهم. وفي القرن الثامن للميلاد شرع العرب في استخدام الورق الذي ابتكره الصينيون بدلاً من الرق أو الجلود، حيث أسّسوا مصنعاً للورق وعنهم أخذته البلدان الأوروبية في القرن الثاني عشر. وقد أنشئ أوّل مصنع للورق في إنجلترّا في القرن الخامس عشر. وفي العام 1436 إخترع “غوتينبرغ” الطباعة فكان ذلك الاختراع فتحاً عظيماً في تاريخ الكتاب، حيث تمّ نقله من طور المخطوط الغميس، إلى المكتوب أو المطبوع الصقيل. متابعة الكتب وتدميرها تعرّضت الكتب والمخطوطات منذ أقدم العصور إلى المتابعة والمصادرة والرقابة والحرق والتدمير. فقد كان الكتاب منذ القدم هو الوسيلة التي تنقل بواسطته العلوم والمعارف وأسرار الحروب وخطط الدفاع والهجوم، وفيها كانت تسجل الاختراعات وأسرار الدول والصنائع. بل كان الكتاب هو السلاح الأفتك والوسيلة المثلى للتنوير والتعليم وتثقيف العقول وتهذيب النفوس وتغذية القلوب وملئها بنور الإيمان والهداية. كان أوّل ما نزل من القرآن الكريم (اقرأ) وفي سورة البقرة يرد اسم الكتاب (كتاب الله) فيقول جلّ من قائل : ( ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين). وكانت كتب المسلمين في الأندلس تثير الرعب والهلع في قلوب الإسبان المتزمّتين منهم. في حين كان يحتفي ويعنى بها آخرون. فهذا الكاردينال سيسنيروس أمر بحرق مكتبة “ مدينة الزهراء” التي كان بها ما ينيف على 600.000 مخطوط في مكان يسمّى “باب الرملة” بغرناطة، وهو ما زال موجوداً بها حتى اليوم. فاختفت العديد من المخطوطات وأمّهات الكتب النفيسة التي أبدعها علماء أجلاء في مختلف فروع المعارف بالأندلس. ويقال: إن الجنود الذين كلّفوا بالقيام بهذه المهمّة كانوا يخفون بعض هذه الكتب أثناء إضرامهم النار فيها في أرديتهم لفرط جمالها وروعتها، إذ كان معظمها مكتوباً بماء الذهب والفضّة. وقد وصف لنا العديد من شعراء الأندلس بحسرة ما بعدها حسرة كيف أنّ الإسبان بعد حروب الاسترداد كانوا يحرقون الكتب والمصاحف ويلطّخونها على مرأى من المسلمين، وفي ذلك أشعار كثيرة مؤلمة. وها هو ذا التاريخ يعيد نفسه في بلدان أمريكا اللاتينية حيث قام الإسبان عند اكتشافهم لها بحرق العديد من الخطوطات والكتب القديمة التي تعود لشعوب المايا والأزتيك في المكسيك، ولشعوب الإنكا والموشيك في البيرو. وتمّ ذلك أمام أعين أربابها السكان الأصليين في هاذين البلدين وفي سواهما من بلدان أمريكا اللاتينية. وحرق الكتب أي تدميرها بالنار يجري عادة في العلن لأسباب أخلاقية أو سياسية أو دينية. وقد يتمّ التخلّص من الكتب سراً كما حدث لملايين الكتب التي تمّ إحراقها في الكتلة الشيوعية الشرقية. ويذكر لنا التاريخ العديد من الأمثلة لهذه الجرائم التي لا تغتفر. فبالإضافة إلى حرق كتب المسلمين في الأندلس، وكتب المايا والإنكا في المكسيك والبيرو نذكر حرق الكتب على عهد أسرة “ تشين” الصينية ، وحرق النازيين لكتب خصومهم في أوروبا. وتعتبر حوادث حرق الكتب مصائب وجرائم في حق العلم والإنسانية تتذكّرها الأجيال تلو الأجيال بسبب قيمة هذه الكتب التي تعتبر خسارة ثقافية فادحة لا تعوّض. كتب ومخطوطات الأسكوريال يظنّ الكثيرون أن خزانة الأسكوريال القريبة من مدريد المليئة بالمخطوطات العربية الثمينة أنها من مخلفات العرب في إسبانيا. والحقيقة أن محاكم التفتيش الكاثوليكية كانت أحرقت كلّ الكتب لعربية أينما وجدت، ولم يبق بعد خروج المسلمين من شبه الجزيرة الإيبيرية كتب عربية تستحق الذكر. وفي أيام السعديين بالمغرب كان المنصور الذهبي مولعاً باقتناء الكتب وجمع منها خزانة عظيمة. وسار خلفه ابنه زيدان على سنته في الاهتمام بالكتب. فنمّى الخزانة التي كانت عند والده. ولمّا قام عليه أحد أقاربه واضطرّ للفرار كان أول ما فكر فيه خزانة كتبه فوضعها في صناديق ووجّهها إلى آسفي لتشحن في سفينة كانت هناك لأحد الفرنسيين لينقلها إلى أحد مراسي سوس. فلمّا وصلت السفينة انتظر رئيسها مدّة أن يدفع له أجرة عمله، ولما طال عليه الأمر هرب بمركبه وشحنته الثمينة ، فتعرض له في عرض البحر قرصان إسباني وطارده للاستيلاء على الصناديق. ولا شكّ أنهم كانوا يظنّون أنها مملوءة بالذهب، واستولوا بالفعل على المركب الفرنسي وأخذوا الصناديق، فلمّا فتحوها ولم يجدوا بها إلا الكتب، فكروا، من حسن الحظ أن يقدّموها هدية لملكهم . ولما وصلت هذه الكتب إلى الملك فيليب الثاني، الذي كان منهمكاً في بناء الدير الفخم للقدّيس لورينثو بالمحل المسمّى الأسكوريال أوقفها على هذا الدير، وهي التي لا تزال إلى اليوم موجودة به، ويقصدها العلماء من كل الأقطار للاستفادة من ذخائرها. وأخذ منذ ذلك العهد ملوك الدولة العلوية التي خلفت السعديين على عرش المغرب يطالبون في كل مناسبة بهذه الكتب. أخبار وطرائف الكتاب كان الكتاب يحظى بعناية خاصة عند العرب وما يزال ، فقد جمع الخلفاء في المشرق والمغرب الآلاف من أمّهات الكتب والمخطوطات. فهذه مدينة قرطبة كانت تحفل بالمكتبات وأروقة العلم وبيوت الحكمة، كانت تزيّن خزانة “الحكم المستنصر” بها (861- 976 م) أكثر من 400 ألف مخطوط. هذا الرجل الذي قال عنه “بول لين” إنه دودة كتب، والذي عنه يقول ابن خلدون: إنه جمع من الكتب ما لم يجمعه أحد من الملوك قبله. كما اعتنى هارون الرشيد في المشرق بجلب العديد من الكتب والمخطوطات من الديار التي فتحها. وقد بلغ نشاط بيت الحكمة ببغداد ذروته على عهد الخليفة المأمون الذي أولاه عناية خاصة ووهبه كثيراً من ماله ووقته. وأهمّ ما ميّز بيت الحكمة الخزانة العظمى التي كانت بها وقد تمّ تدمير العديد من نفائسها على يد المغول العام 1258 م. كان العلماء العرب يحبّون الكتب حبّا جمّا، الجاحظ مات تحت أكوام كتبه. وكانوا يتحمّلون المشاق وعناء السفر لطبع كتبهم ، وكانت إعارة الكتب شيئاً ممقوتا عندهم ، وكان شاعرهم يقول في ذلك: “ألا يا معير الكتب دعني/ فإنّ إعارة الكتب عار”. وكانوا يقولون إنّ الكتاب الذي يعار لا يردّ إلى صاحبه، وهم محقّون في ذلك. إذ يحكى أن الكاتب الفرنسي إميل زولا زاره ذات مرّة أحد أصدقائه في بيته، وعندما بدأ يطّلع ويتفقّد مكتبة” زولا “الكبيرة ، فيأخذ كتابا ثم يردّه إلى مكانه في رفوف المكتبة، وفجأة وقع نظره على كتاب كان يبحث عنه منذ مدّة، فقال لصديقه زولا: هل لك أن تعيرني هذا الكتاب؟ فقال زولا له على الفور: لا ، لا أستطيع أن أعيرك إيّاه، فالكتاب الذي يعار لا يردّ إلى صاحبه أبداً، والدّليل على ذلك أنّ معظم الكتب التي ترى في هذه المكتبة معارة. وقال أحد الكتّاب الكولومبيين : إنّ الذي يعير كتاباً اقطع له يداً واحدة، أمّا الذي يردّه إلى صاحبه فاقطع له يدين. وكان برنارد شو يتجوّل ذات مرّة بسوق الكتب القديمة، وفجأة وقع نظره على كتاب له كان قد صدر مؤخراً. وكان قد أهداه لأحد زملائه الأدباء، فباعه هذا الأخير دون أن يفتح أوراقه التي كانت لا تزال لصيقة ببعضها، فاشترى شو الكتاب، وكتب تحت الإهداء القديم: برنارد شو يجدّد تحيّاته، ثمّ بحث عن صديقه وسلّمه له من جديد. وكان المرحوم عبّاس محمود العقاد يقول : أنا من بدّل بالكتب الصّحابا/ لم أجد لي وفيّاً إلاّ الكتابا. ونختم هذه العجالة ببيت المتنبّي المشهور: أعزّ مكان في الدّنى سرج سابح/ وخير جليس في الزمان كتاب.