كتبت - نورهان طلال:
جل ما يحلمون به أن يخلدوا إلى فراش آمن يجمعهم مع شريكة عمرهم، وأن يكون حالهم كحال من أنعم الله عليه نعمة البصر، في تكوين، فهم وإن قدر الله لهم بفقدان نعمة البصر، لكن بصيرتهم مازالت متقدة، وحالهم لا يختلف عن أي إنسان آخر، يحلم بأن تكون عنده أسرة، تعيش بكنفه، يخاف عليها ويخطط لأفرادها مستقبلهم.
يقول عدد من الشباب البحريني الذي فقد نعمة البصر، جراء حوادث ألمت بهم، أو أسباب مرضية، إن: «جل ما نحلم به أن تكون لنا شريكة، نتقاسم وإياها حلاوة العيش ومراراته، كما كل الناس، غير أن نظرة المجتمع للكفيف، نظرة سيئة، ودائماً ما يواجه الكفيف حال تقدمه للزواج، بأجوبة قاسية ومحبطة، متسائلين: «اللي ما يجوف خلاص يموت؟».
شريكة العمر
حبيب ناصر البالغ من عمره 23 سنة بدأت رحلته في اكتشاف المرض في الـ11 من عمره حيث كان هناك ورم في رأسه ضغط على العين، وتم القرار باستئصال هذا الورم، لكنه فقد البصر كلياً جراء هذه العملية. فلم يكن كفيفاً بصرياً فقط بل معاقاً جسدياً أيضاً، لا يستطيع حمل الأشياء الثقيلة ولا يملك التوازن وحركته قليلة.
كان حبيب طفل كأي طفل يمرح في الشارع ويلعب بدراجته دون الخوف من أي شيء ودون أي اكتراث لنفسه، لا يشغل باله سوى كيف يستطيع أن يقضي وقتاً أكثر مستمتعاً بما لديه من أصدقاء ودراجات وألعاب متنوعة، شاء القدر أن يسحب هذه السعادة والنشاط من حبيب دون أي اعتراض.
تكلمت والدته عن حالته قائلة: «حالة حبيب تحتاج الاهتمام به معنوياً أكثر من الاهتمام مادياً، مضيفة أنه دائماً كان يقول لأهله «ليش مب تفتكرين فيني؟ أبي أحد ينظف حجرتي كل يوم» معللاً أن حجرته في الأعلى وأمه في الأسفل وهذا تعب عليها على الرغم من جلوسهم الدائم معه وحوله، لكنه كان يحاول إيصال رسالة بطريقة غير مباشرة عن رغبته في الزواج، حلم بسيط لأي شاب في عمره. حالته باتت تسوء من التفكير بشدة في الأمر، ما أثر على دماغه وبدأت في إفراز سوائل تجعله طريح المستشفيات لإجراء عملية في تفريغ هذا السائل، على إثرها تم إجراء العملية أكثر من 7 مرات إلى أن تم إدخاله مستشفى سعودياً للمكفوفين وكانت آخر عملية من 7 سنوات حيث قاموا بتركيب جهاز داخلي يقوم بشفط هذه السوائل دون الحاجة إلى إجراء عملية جراحية في تفريغه».
وأعربت والدته عن أسفها وحزنها على ولدها الذي تعبت في تربيته وتقف عاجزة حيال علاجه لكثرة المبالغ المادية خارجاً، خصوصاً في ألمانيا: «إذا تجوفه كأنه طبيعي عينه مفتوحة بس ما يجوف» داعية من الله أن يتم علاج ابنها يوماً من الأيام مضيفة: «يجب الاهتمام بالمكفوفين بحجم أكبر ودراية أكثر»، راجية من الله عز وجل اليد الحنون لإعادة البسمة لولدها وتحقيق حلمه البسيط ألا وهو «الزواج».
«ما تجوف.. كيف تتزوج»؟
جمال علي البالغ من عمره 41 سنة، يحلم بأن يكتفي عن سماع «أنت تبي تتزوج بنتي؟ أنت ما تجوف، تشيلك هي بدل ما تشيلها أنت!!» كم هي مؤثرة هذه الجملة لشاب قمة حلمه البسيط أن يحصل على نصفه الثاني دون استياء من أي نظرة من المجتمع، حرم من قضاء طفولة طبيعية كأي طفل يحب المرح واللعب، ففوجئ بفقدان بصره إثر حادث سقوطه من الدراجة وهو في الثالثة من عمره، كانت الإصابة في عينه اليمنى فقط واليسرى يرى بها آخر طفيف تبقى له من نور الدنيا، لم يتطرق إلى أي علاج من قبل معللا : «أنا راضٍ ومكتفٍ بما قسمه الله لي».
تزوج جمال من امرأة لم يكن يعرفها كما هو متعارف عليه من تقاليد المجتمع، لم تكن ذات كفء كافٍ لحالته بما أنه يتطلب مراعاة كاملة أكثر من أي رجل طبيعي آخر، رضي بها ليكون معه أحد، لا يريد العيش وحيداً، فخانته مع صديقه على كل «الدلع» والرفاهية التي كانت فيها من أموال وكل ما تريد، وعلى كل هذا كان لديها طفل «ولد وحيد» من رجل آخر. صبر جمال على خيانة زوجته لمدة 8 سنوات لعل وعسى تتغير، لكنها تمادت في المر حيث استغلت إعاقته وأصبحت تأتي برجال في المنزل قائلاً: «لم أفكر ولا مرة أن أمد يدي عليها رغم معرفتي كل شيء يدور حولي».
بدأت رحلة البحث عن شريكة أخرى من 2006 حيث طلقها ولم تتوقف أذناه عن سماع «أنت كفيف شلون أزوجك بنتي»، حيث بات يردد داخل نفسه: «اللي ما يجوف خلاص يموت؟؟» يأس من حياته ليس اعتراضاً على إعاقته بل اعتراضاً على نظرة المجتمع العقيمة له. مما كان يزيد عليه مرارة الوحدة هو تحمله مسؤولية مرض والدته التي تبلغ من العمر 80 سنة، لديها «روماتيزوم»، في كل أعضاء جسمها، وكيس دهني في يدها كل شهر تقريباً يتم استئصاله لكنه يعود مرة أخرى، لا يتكفل بها أحد سواه على الرغم من وجود أخوين آخرين، لكنهما في سن المراهقة وطيش الشباب فتكون آخر اهتماماتهما والدتهما، وأخت واحدة متزوجة لديها مشغوليات أخذت منهم الدنيا بما فيها وشغلتها عن أمها هي الأخرى.
«ما يهمني شكها ما تعودت أحكم على أحد بالإعدام» كانت هذه آخر جملة أنهى جمال بها لقائه حيث كانت أقصى أمانيه هو العثور على الشريكة التي تعوضه الحرمان ونقص الحنان وسنين الوحدة التي عاشها دون اليد العطوفة.
طفلان.. وكفاح
أما صلاح خليفة كان الأمل والعزم يسيطران عليه كثيراً، متناسياً أمر حالته الذي فقد فيها بصره كلياً، لكن الأمر بات يتسلل إليه تدريجياً حيث كان يهوى الكثير من الرياضات الخطرة والبسيطة منها، لم يتعرض إلى أي حادث خشن أو عادي من قبل ولا حتى كان يلبس نظارة طبية بل كان نظره قوياً جداً، وفجأة شاءت الأمور بالتغير، فبدأ يشعر أن هناك ضباباً في الجو متسائلاً: «اش فيه الجو مغبر هلون؟» لم يكن يدري أو لم يتوقع أبداً أن الخلل من عينه ليس في الجو، بدأ مع الوقت يشعر بألم في الرأس غريب، ودون أي اكتراث توهم أن هذا صداع وسيذهب لحاله، لكنه أحس بأن هناك شيئاً غريباً يحدث في رأسه فبدأ بمراجعة الطبيب وجاءه الخبر أنه مصاب بـ»جلوكوما» أي الماء الأسود أو الأزرق كما هو متعارف عليه طبياً في عينه اليمنى يجعل الرؤية عند الإنسان تبدو باللون الأزرق «السماوي» أو اللون الداكن. ذهب صلاح إلى عدة مستشفيات وتعددت الزيارات وكانت حالته تتحسن تارة وتنتكس تارة أخرى، والعين اليسرى كانت بخير لا يوجد بها أي ضرر، فواصل حياته طبيعياً يقوم بإكمال كل شيء والتأقلم بعين واحدة دون الأخرى، وواصل رحلة البحث عن علاج فبعث بصور الأشعة إلى لألمانيا، وجاء الرد صاعقاً، إذ قال له الدكتور: «احمد ربك أنك تجوف بعين واحدة وأنت عندك عصب العين ميت» وتم الاقتراح عليه بإجراء عملية جراحية، وبالفعل أجرى له دكتور أجنبي، العملية، دون خفض ضغط العين، ما تسبب له في فقدان البصر تماماً، إذ كان اعتماده الأول والأخير على عين واحدة، لكن شاء القدر أن يكون اعتماده كلياً على الله عز وجل فقط لا غير.
لم تتوقف رحلة العزم عند خليفة هنا، بل واصل في التحديات وذهب إلى الأردن فيتحسن، لكن دون جدوى ترجع حالته إلى الصفر مرة أخرى، إلى أن قام بتركيب صمام خلف العين يقوم بضبط الضغط حتى يذهب ألم الرأس على الأقل تماماً، وبالفعل ذهب الألم ولم تذهب الإعاقة معه. عزل خليفة نفسه لمدة شهرين تماماً عن العالم في منزله، لدرجة أن أهله توقعوا أنه دخل في دور اكتئاب، لكن بالعكس تماماً، فهو كان منعزلاً لمراجعة حساباته وأموره وكيفية العيش بهذه الإصابة. لم يكن خليفة وحيداً، بل شاء القدر أن يتزوج امرأة ملتزمة تصون زوجها «في الحلوة والمرة»، رزقه الله بطفلين ولد وبنت، وترك لها حرية الاختيار في إكمال حياتها وتقرير مصيرها، لكنها اختارت أن تعيش بجانبه تلبي له أوامره وترعاه الرعاية الكاملة. رجع لحياته الطبيعية وخرج عن عزلته مصمماً في داخل نفسه أنه لا يوجد شيء قد يقف عائقاً أمام طموحاته وأحلامه ولا يوجد شيء قد يسلب منه متعته بهواياته قائلاً: «للحين أروح البحر أركب دراجتي المائية وأخلي أخوي وراي»، مضيفاً: «أنا أطبخ أحسن من أكبر طباخ وفي الأعياد أقدم لهم أطباق خاصة». أصبح يدير أعماله الخاصة دون الحاجة إلى أحد، لكن يوجد هناك مرافق له يستعين به عند العمل بالكمبيوتر لا غير وسائق خاص به، لم يشتكِ من أي شيء، لديه روح حلوة لا يتمتع بها الكثير من الذي يتمتع بكافة بصره.
وتمنى خليفة في ختام حديثه أن تأخذ وزارة الصحة، هذا المرض بعين الاعتبار، ويكون هناك توعية أكثر مما هو موجود حالياً»، مضيفاً أن»هناك العديد من الناس يكون عندها ضغط العين هذا دون أن يدرون بمضاعفاته لاحقاً إن لم يكن هناك اهتمام به من البداية». ألهمه الله عزماً وإيماناً لا يوجد عند الكثير من ال بشر، لدرجة أنه دخل دورة تصوير فوتوغرافي هو و3 شباب وشابة من زملائه وحصل على شهادات تقدير واستخدمت صوره في عدة مواقع للترويج عن الدورة».