* د. عمر العبيدليلو حدث أن أعضاء «أوبك» تصفحوا كتاب أبجديات الاقتصاد، وقرؤوا الباب الذي يتناول احتكارات القلة، فلابد أنهم سيشعرون بالضيق؛ إذ إنهم في وقت تأسيس الكتلة في بغداد في عام 1960، خالف المؤسسون تقريباً كل الظروف المثالية المطلوبة لتشغيل اتحاد احتكاري، ومن ثم فرضوا على أنفسهم تحدياً كبيراً. لذا، نجد أن قرار السعودية بعدم خفض إنتاجها -بعد مرور 55 سنة- قرار صحيح، وقد تنظر دول مجلس التعاون «البحرين، الكويت، عمان، قطر، السعودية، الإمارات» في الطاقة المتجددة، كمحرك محوري مستقبلي، لاقتصاد خليجي متحد.علق الاقتصادي آدم سميث يوماً بالقول: «نادراً ما يجتمع أصحاب نفس النشاط التجاري، حتى ولو للمرح أو التسلية، ولكن في تلك الحالات، دائماً ينتهي اللقاء بمؤامرة ضد المجتمع، أو بمحاولة رفع الأسعار». ولمن يتابع أنشطة منظمة «أوبك» من الخارج، لاشك ستبدو له اجتماعاتها كاستعراض نموذجي لما طرحه سميث. ولكن إن تم التدقيق في علم اتحادات الاحتكار-لاسيما ما يجعلها ناجحة- فلربما نشعر أن اجتماعات أوبك قائمة -أساساً- على المرح والتسلية، وليس على التآمر.إن تشغيل اتحادات الاحتكار يتطلب أهدافاً مشتركة، من السهل اتفاق الأعضاء عليها، وظروفاً تجعل الرقابة بين الأعضاء أمراً بسيطاً. ولذلك؛ فإن الاتحادات الاحتكارية الناجحة تتكون عادةً من عددٍ صغيرٍ من الأعضاء، حيث إن ذلك يسهل عمليتي التنسيق والرقابة، وأيضاً من أعضاء متجانسين من ناحية كلف الإنتاج؛ لتسهيل عملية الاتفاق على السعر المستهدف. وتعمل عادة الاتحادات الاحتكارية الناجحة في أسواق فيها طلب غير متقلب؛ لتيسير كشف من لا يلتزم بحصص الإنتاج المتفق عليها.وعلى عكس الظروف المثالية المذكورة أعلاه، يبلغ عدد أعضاء أوبك 13، وهم متوزعون في كل أنحاء العالم. وهناك تباينٌ ملحوظٌ في كلف الإنتاج لدى الأعضاء، بالإضافة إلى اختلافات كبيرة في الضغط المالي الذي يواجهه كل عضو. والطلب العالمي للنفط متقلب للغاية؛ حيث إن أسواق النفط تستقطب اهتمام وجهود المضاربين الذين يكسبون رزقهم من تقلب أسعار السلع، ويحمل النفط قيمة استراتيجية، والطلب العالمي عليه يتأثر بشكل كبير بأداء الاقتصاد بصورة عامة؛ ويعتبر توصل فنزويلا ونيجيريا وإيران إلى رؤية مشتركة حول حصص الإنتاج، والالتزام بتلك الحصص، أمراً صعب التحقيق؛ ولذلك، يعتبر تشغيل أوبك بشكلٍ فعال -ولو لمدة سنة واحدة- شبه معجزة.مما سبق يتبين لنا الجانب النظري؛ وكذلك ما يحدث على أرض الواقع؛ حيث بيانات الإنتاج تؤكد عدم فعالية أوبك. وفي دراسة رصينة مفصلة حول أنشطة المنظمة منذ عام 1980، اكتشف جيوف كولجان من جامعة براون أن أعضاء أوبك يخالفون حصص إنتاجهم في ما يزيد عن 95% من الحالات. وباستخدام نمذجة إحصائية متقدمة تأخذ في الاعتبار كل العوامل التي تؤثر على قرارات الإنتاج، ومنها كلف الاستخراج، واعتماد الميزانية العامة على الإيرادات النفطية، أثبت كولجان أنه لا اختلاف بين إنتاج الدول الأعضاء في أوبك، وإنتاج الدول غير الأعضاء. ولكن يبدو أنه بعد حدوث أزمات النفط في السبعينات، لم تعد أوبك تمثل اتحاداً احتكارياً مشغلاً.وكتب أبجديات العلاقات الدولية تؤكد النظرة المتشائمة التي نخرج بها من كتب الاقتصاد، حيث إن أعضاء أوبك لا يهدفون فقط إلى تحقيق الأرباح، بل يشاركون في صراع جيو- استراتيجي حول النفوذ في داخل الشرق الأوسط وخارجه؛ مما يجعل عملية تشغيل اتحاد احتكاري بين منتجي النفط أمراً شبه مستحيل. فحتى في حالة تنسيق ناجح بين السعودية وإيران -برغم الخلافات بين الدولتين- كيف يمكن التنسيق مع دولة غير مستقرة كالعراق، لا تتحكم حتى بإنتاجها؛ لأن الأكراد العراقيين يتجاهلون أوامر الحكومة المركزية العراقية؟ وفي الوقت الراهن، فإن التوتر بين أعضاء أوبك يتزايد، ولا يتراجع.في ظل الصعوبات النظرية والواقعية التي يواجهها من يرغب في تشغيل أوبك، يطرح السؤال: لماذا تستمر المنظمة؟ يقدم كولجان أسباباً مقنعة لاستمرار أوبك، مبنية على مكتسبات أصحاب المصلحة. أولاً: يستفيد الأعضاء دبلوماسياً واقتصادياً من هيبة العضوية. ثانياً: الدول المستوردة للنفط تتعامل مع أوبك ككبش المحرقة عند بروز أية أزمة اقتصادية.إن عدم تشغيل «أوبك» كاتحاد احتكاري لا يتعارض بتميز بعض الأعضاء بنفوذ ملحوظ في أسواق النفط، فتاريخياً -وأيضاً حالياً- تؤثر قرارات الإنتاج لدى السعودية على الأسعار. وفي آخر 20 سنة، استخدمت السعودية نفوذها لمساعدة الاقتصاد العالمي، كجزء من علاقتها الاستراتيجية مع أمريكا: يقل إنتاج السعودية عن طاقتها الإنتاجية بشكل ملحوظ؛ مما يسمح لها أن ترفع إنتاجها للتعويض عن تراجعات مؤقتة، في إنتاج المنتجين الآخرين، مثلاً خلال حرب الخليج في عام 1991، والثورة الليبية في عام 2011. ويتسبب ذلك في استقرار الأسعار، لمصلحة المنتجين والمستهلكين.وفي الأوضاع الجيو-سياسية الراهنة، ليس من المحتمل أن يتصالح أعضاء أوبك بين بعضهم. ولذا؛ لاشك أن الدفاع عن حصتها في السوق هو القرار الصحيح للسعودية، فلا يمكن الثقة في إيران والعراق من ناحية الالتزام بأية اتفاقية حول الإنتاج. وبالإضافة إلى ذلك، فإن التنافس مع منتجي النفط الصخري يقلل من أثر تقليل إنتاج أوبك على سعر النفط العالمي؛ مما يؤكد أن تقليل إنتاجها سوف يقلل إيرادات السعودية. ونتيجة لبيئة التفكير ذي المجموع الصفري في الشرق الأوسط، فإن من ينتقد قرار السعودية يسعى إلى الضغط عليها؛ لارتكاب خطأ في حقها. ولكن اجتماع أوبك في ديسمبر 2015 أثبت أن السعودية قادرة على تحمل مثل هذا الضغط.والسؤال الأهم للسعودية ودول مجلس التعاون يتعلق بالمستقبل. لاشك أن التنبؤ بسعر النفط أمرٌ صعبٌ للغاية؛ وذلك بسبب تقلب الطلب والعرض العالمي للوقود الأحفوري؛ ومع ذلك، ينظر حالياً كبار مستهلكي النفط -ومنهم دول مجلس التعاون- في الطاقة المتجددة، كبديل للوقود التقليدي لمختلف الأسباب البيئية، والتكنولوجية، والجيو- استراتيجية. إذاً، ما هي الخيارات المتاحة لدول مجلس التعاون؟وفعلاً تقدم الطاقة المتجددة لدول مجلس التعاون فرصة لضرب عصفورين بحجر واحد؛ فهي تتميز بمعدلات استهلاك طاقة عالية جداً؛ نتيجة لارتفاع الدخل القومي، والدعم الحكومي للوقود، وتواجدها في بيئة صحراوية. ولذا؛ تعاني الدول الخليجية من بعض المشكلات التقليدية، وعلى رأسها التلوث. ويؤدي الاستهلاك المفرط للطاقة أيضاً إلى فقدان إيرادات بيع النفط والغاز؛ بسبب استخدام الوقود محلياً لتوليد الطاقة. ومن خلال تصريحاتها، اتضح استيعاب الحكومات الخليجية لهذا الموضوع، ولذا؛ تم الاستثمار في قطاع الطاقة المتجددة، كما تم التخطيط لمزيد من الاستثمارات.بالإضافة إلى الأهداف البيئية، فقد أجرت دول مجلس التعاون -منذ التسعينات- سياسات تنويع اقتصادي، تشمل محاولات تعزيز قطاع الطاقة المتجددة؛ ويعود ذلك إلى قيام تقنيات الطاقة المتجددة على أحدث التكنولوجيات؛ مما يساهم في تحويل الاقتصادات الخليجية إلى اقتصادات المعرفة؛ فضلاً عن تعدد فرص العمل التي يخلقها هذا القطاع، لاسيما الوظائف التي تناسب الثقافة الخليجية. ونتيجة لذلك؛ تم تأسيس مختلف مراكز الأبحاث، ومنها «مركز الملك عبدالله للدراسات والبحوث البترولية» في السعودية، و»مصدر» في الإمارات، و»معهد الكويت للأبحاث العلمية»، والمركز القطري الجديد «مؤسسة عبدالله بن حمد العطية لدراسات الطاقة»، و»مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة».وختاماً -وربما هذه أهم نقطة- وهي أن الطاقة المتجددة تقدم فرصة لدول مجلس التعاون؛ لتعزيز مدى تعاونها الاقتصادي؛ ولتطوير تقنيات حديثة وقيمة استراتيجياً، على مستوى عالمي. ويعود ذلك إلى مواصفتين خاصتين بالبحث العلمي، في مجال الطاقة المتجددة في الخليج، وهما:أولاً، قد يتصور غير المتخصص أن شدة الحرارة وقلة الغيوم في الخليج العربي تخلقان بيئة مثالية للاستفادة من الطاقة الشمسية. ولكن بالفعل، فإنه على الرغم من أهمية الضوء المتوفر، فإن تقنيات الطاقة الشمسية الحديثة تتضرر من الحرارة الإقليمية، وتتطلب كميات كبيرة من المياه، وهي مورد شحيح. وطبعاً لا يهتم مهندسو الطاقة الشمسية الدانماركيون والألمان بدراسة كيفية تكييف التقنيات المتوفرة؛ لكي تلبي احتياجات الإقليم الخليجي؛ مما يفتح مجالاً لدول مجلس التعاون للقيام بالبحوث المطلوبة. والسعودية تحديداً تخلق مئات المهندسين ذوي مستوى عالمي سنوياً؛ وبالتالي يمكن الاستفادة من قدراتهم عبر تكليفهم بتطوير تقنيات الطاقة المتجددة المناسبة للمناخ الخليجي.ثانياً: البحث الحديث مكلف للغاية، ويتطلب حداً أدنى من الموارد؛ لكي يكون فعالاً. لذا، ينبغي جمع الموارد والبرامج البحثية لكل الدول الخليجية، والتنسيق والتعاون بين المؤسسات فيها، وليس العمل الانفرادي دولياً؛ لضمان الوصول إلى المستوى الأدنى المطلوب للتقدم. وهناك محاولات لتوحيد الجهود، ولكنها مازالت في مرحلة ابتدائية، وينبغي تعزيزها للاستفادة من الطاقة الكامنة.لقد تعودت أجيال من سكان العالم على تقلبات أسواق النفط، وما تسببه من سلبيات للدول المصدرة والمستوردة للنفط. وبالإضافة إلى الخطوات السليمة التي اتخذتها دول مجلس التعاون في الأزمة الحالية، ينبغي عليها أن تغتنم فرصة تعزيز تعاونها البيني، كما حدث في عملية عاصفة الحزم التي مثلت مرحلة جديدة من التعاون العسكري بين الدول الست، وربما تكون أزمة أسعار النفط في 2014-2015 بداية مرحلة غير مسبوقة من التعاون الاقتصادي. ولاشك أن مثل هذه الاجتماعات ترضي آدم سميث.* باحث ـ مركز «دراسات»تقرير: أسعار النفط الحالية تعيق إنجاز مشروعات الطاقة المتجددة والتقليدية
970x90
970x90