تعود سكان الشرق الأوسط على الاستهزاء بالآخرين؛ بخصوص نظرياتهم حول مؤامرات عجيبة. ويعود حبهم للتوهم حول حتى أبسط الأمور –جزئياً - إلى ثقافة تنفيذ السياسات الحكومية في الشرق الأوسط، دون إبداء أي تبرير أو تعليق ملحوظ، من الجهات المسؤولة.
ولكن في الفترة ما بعد يوليو 2014 انتقلت ظاهرة حب نظريات المؤامرات- في مجال تحليل أسواق النفط- إلى بقية دول العالم؛ حيث إن وكالات الأنباء العالمية - في محاولتها لتحليل وتفسير هبوط سعر النفط، بما يزيد عن 70%- نشرت نظريات عجيبة، غريبة، عن الأسباب الحقيقية لما جرى.
واتهام السعودية - بالتسبب في هبوط السعر- يغلب على تلك التحليلات، وتحديداً القول إن استمرار حالة الانخفاض يعود إلى إغراق السعودية للسوق. ويدعي أصحاب نظريات المؤامرات أن السعودية تنسق سراً مع أمريكا؛ من أجل إضعاف روسيا، ويقولون إنها تهدف إلى ضرب الاقتصاد الإيراني؛ بسبب «حقدها» نحو الجمهورية الإسلامية؛ ويدعون بإن السعودية غضبت غضباً شديداً من منتجي النفط الصخري؛ وبالتالي فهي تنفذ سياسة الأرض المحروقة «scorched earth». وفي كل الأحوال، يقال إن ما نشهده اليوم هو مجرد أحدث حلقة في مسلسل»تصرفات عدوانية» لمنتج النفط «المتوحش الأكبر»، الذي عمل بهذا الأسلوب لمدة 45 سنة.
ويستغرب كثير من الاقتصاديين من هذه النظريات؛ لأن الأدوات الفكرية التي يكتسبها طالب أبجديات الاقتصاد «Econ 101» تكفي لتحليل ما يجري في أسواق النفط. وما يجعل الوضع غريباً جداً - لمن لا يؤمن بالمؤامرات - هو شفافية وزير النفط السعودي، علي النعيمي، حين تحدثه عن آراء وأهداف المملكة؛ حيث إن ما يقوله يطابق التحليلات العادية التي يقدمها أي خبير اقتصادي غير منفعل.
وهناك بعض الوقائع التي تعرقل عملية رسم نظريات مؤامرات؛ لأنها تتعارض مع جذور ما يدعيه أصحاب تلك النظريات العجيبة، وهي:
أولاً: ارتفع إنتاج النفط العالمي، ولكن ليس بشكل كبير. تعرض في شكل 1 بيانات الإنتاج النفطي العالمي «مليون برميل في اليوم» وسعر البرنت الأوروبي «دولار للبرميل»؛ ففي الفترة يناير 2014 – أكتوبر 2015، تراجع سعر النفط من 108 دولارات للبرميل إلى 48 دولاراً للبرميل، بينما ارتفع الإنتاج العالمي من 77.3 مليون برميل يومياً إلى 80.0 برميل يومياً «3.5%». وارتفع إنتاج النفط العالمي بنسبة 2.8% تقريباً - في كل سنتين- خلال آخر خمس سنوات؛ وبالتالي، فإن السوق- حسب المعايير التاريخية - لا تعاني حالياً من إغراق، سواء من السعودية أو غيرها.
ثانياً: مساهمة السعودية في الارتفاع العالمي متواضعة للغاية. تعرض في شكل 2 التغييرات في إنتاج مختلف كبار المنتجين خلال آخر خمس سنوات، وتسطح بعض الخطوط ملفت للانتباه. وفي الفترة من يناير 2014 إلى أكتوبر 2015، ارتفع الإنتاج السعودي بمقدار 0.2 مليون برميل يومياً، مقارنة بالإنتاج الأمريكي، الذي ارتفع بمقدار 1.4 مليون برميل يومياً، والإنتاج العراقي، الذي ارتفع بمقدار 1.2 مليون برميل يومياً.
ثالثاً: إن سعر النفط - حسب المعايير التاريخية - ليس منخفضاً؛ فقد تجاوز السعر الشهري 40 دولاراً للبرميل لأول مرة في التاريخ في عام 2004. وبعد تعديل التضخم، أصبح سعر النفط الراهن هو أعلى من أي سعر منذ 1900، باستثناء السبعينات والفترة ما بعد عام 2004. ومصطلح «إغراق السوق» يعني عادة تنزيل السعر بحيث لا يمكن لأي منتج تقريباً أن يحقق أرباحاً، بينما لاتزال هوامش أرباح شركات النفط ملحوظة حالياً، ومنها شركة أرامكو؛ فعلى الرغم من التراجع في ربحية إنتاج النفط، إلا أن النشاط يستمر مربحاً للغاية!
وبناء على هذه البيانات، فإذا أصررنا على تحميل جهة معينة مسؤولية انخفاض سعر النفط، فإن «اللوم» يقع على عاتق أمريكا والعراق. ولكن منطقياً، هما لم يظلما أحداً؛ حيث إنه يحق للدولتين أن تنتجا وتبيعا النفط بشكل ربحي.
والسبب الحقيقي – وغير العجيب – لتراجع سعر النفط هو مزيج من العوامل المتعلقة بالعرض والطلب؛ فمن جانب الطلب، نما كل من الاقتصادين الصيني والهندي، بمعدل أقل من المتوقع، بينما تستمر التحديات التي تعيق نمو الاقتصادين الأوروبي والياباني. ومن جانب العرض، بالإضافة إلى ارتفاع إنتاج أمريكا والعراق، فإن الأسواق شهدت ارتفاعاً في الإنتاج الإيراني في ظل رفع العقوبات. ويعلم المضاربون أنه في حالة صعود السعر فوق 60 دولاراً بشكل مستدام، فإن الإنتاج الأمريكي قابل للتوسع بسهولة؛ حيث إن النفط الصخري يتصف بمرونة الإنتاج، والقدرة على التفاعل السريع مع أجواء السوق. ويمكن لكل من إيران، والعراق، وليبيا أن يعززوا من طاقتهم الإنتاجية - إن تمكنوا من استقطاب رأس مال كاف. وتحد هذه العوامل من احتمال ارتفاع سعر النفط.
وفي ظل هذه الأجواء التنافسية، فإن محاولة رفع سعر السوق - عبر تقليل إنتاج جهة ما - ستفشل بالتأكيد؛ لأن جهة أخرى ستقضي على الحصة الشاغرة فوراً. إذا هل ينبغي إجراء خفض منسق بين أعضاء أوبك؟ يبين شكل 2 أن منظمة أوبك لا تشمل اثنين من ثلاثة أكبر منتجي النفط العالميين «أمريكا، روسيا»، وأنها تشمل دولا تتصارع جيو- استراتيجياً «السعودية وإيران»؛ مما يجعل التعاون الفعال أقل احتمالاً حتى من بعض نظريات المؤامرات العجيبة التي تتداول حالياً.
وإن بدا ما سبق مألوفاً، فهذا متوقع؛ لأن النعيمي كرر هذه النقاط مرات عدة خلال آخر سنة ونصف؛ مما يجعل اهتمام المحللين بنظريات المؤامرات أمراً غريباً جداً. ربما يكون أكثر سبب مقنع لهذه الظاهرة العجيبة - التي تشتمل على تجاهل أبجديات التحليل الاقتصادي- هو محاولة دفع السعودية إلى ارتكاب خطأ من قبل المتضررين من هبوط سعر النفط، عن طريق خلق ضغط مجتمعي ودولي. وتحديداً، يعاني كثير من المنتجين الأمريكيين من الإفلاس، بينما يواجه العراق صعوبات صارمة في موازنته العامة؛ وبالتالي لن يستقطب الاستثمارات الملزمة بسهولة، في بيئة أسعار منخفضة.
ولحسن الحظ السعودي، يبدو أن النعيمي لا يتأثر بمحاولات الضغط عليه. وبما أن الاستثمارات النفطية تتراجع؛ فإن من المتوقع أن يرتفع سعر النفط، بشكل محدود خلال السنتين القادمتين. وإلى أن يحصل ذلك، ستستمر السعودية - على الأرجح- في تحقيق إنجاز فريد مميز، وهو اتهامها بالتسبب في سعر مرتفع «عام 2011»، وسعر منخفض «عام 2015»، دون إجراء أي تغيير ملحوظ في الإنتاج! وحتى صاحب نظريات المؤامرات يفتخر بمثل هذا التعصب الفكري!
*مدير برنامج الدراسات الدولة والجيو-سياسية في مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة