أكد نائب رئيس مجلس الوزراء سمو الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة مساهمات سمو الأمير الراحل سعود الفيصل فيما يتعلق بالبحرين ودفاعه عنها ضد الأطماع الإيرانية، وإنهاء الخلاف الحدودي بين البحرين وقطر، وإنشاء جسر الملك فهد، مشدداً على أن الأمير سعود الفيصل سيظل خالداً وحاضراً في القلوب من خلال إنجازاته ومواقفه.
وأعرب سموه، خلال كلمته بالمؤتمر الدولي الذي بدأ اعماله أمس برعاية كريمة من لدن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود ملك المملكة العربية السعودية الشقيقة، وبتنظيم من مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية عن الأمير الراحل سعود الفيصل، عن مشاعره الأخوية تجاه الأمير الراحل وما كان يجمع بين سموهما من علاقات أخوية حميمة على المستويين الشخصي والعملي، ومن تشاور وتنسيق وتعاون فيما يتعلق بعلاقات البحرين والسعودية والقضايا موضع اهتمام البلدين المشترك على الساحتين الإقليمية والدولية.
وقال سموه، في كلمته، إن الإنجازات التي حققها سمو الأمير سعود الفيصل خلال مسيرة عمله التي امتدت لأكثر من أربعة عقود ومواقفه الشجاعة التي لا تنسى وشمائله ودماثة أخلاقه التي تسلب الألباب وتقربه من القلوب تخفف من المشاعر التي يستذكر من خلالها المشاركون بالمؤتمر ذكراه أميراً وأخاً عزيزاً وقائداً حكيماً لسفينة دبلوماسية بلاده وأمته العربية والإسلامية وفارساً ومحارباً ومدافعاً عن قضايا الحق والعدالة المشروعة.
كما أعرب سموه عن عزائه لخادم الحرمين الشريفين، ولأسرة الراحل الكريمة وأخوانه وشعب المملكة العربية السعودية، وكل الذين عملوا معه وحزنوا لرحيله وافتقدوا رفقة دربه.
وفيما يلي نص الكلمة :»بسم الله الرحمن الرحيم، خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود،، أصحاب السمو الملكي الأمراء الكرام ،،،
أصحاب المعالي والسعادة ،، السيدات والسادة،،
نستذكر أميراً واخاً عزيزاً على قلوبنا جميعاً، فقيد الدبلوماسية العربية والإسلامية والدولية صاحب السمو الملكي الأمير سعود الفيصل طيب الله ثراه.
وإن مما يخفف من مشاعر الحزن لرحيله، أن صاحب السمو الملكي الأمير الراحل يعيش معنا من خلال إنجازاته التي لا تحصى ومواقفه الشجاعة التي لا تنسى وشمائله و دماثة أخلاقه التي تسلب الألباب وتقربه من القلوب.
لم يكن سموه وزيراً عادياً، لا تهمه من المنصب سوى الوجاهة واللقاء بكبار قادة العالم في الداخل والخارج. بل كان ناسكاً، في محراب مهنةٍ صعبة، طالما قَرَّبَتْ وبَاعَدت بين الشعوب، خاصمَتْها وأشعلتِ الحروبَ بينها ثم صالحتها. مهمة لا يُغْتفر فيها الخطأ مهما صَغُر.
أشعر أني فقدت أخاً وصديقاً عزيزاً، وإنساناً نبيلاً كريم النفس، عفيف اللسان، نقي الضمير، شديدَ الإخلاصِ لأمته ووطنه. تلك المناقبُ، عرفها في سموه من تعاملوا معه واختلطوا به في مستويات عدة. عرفْتُه عن قرب خلال اللقاءات الثنائية العديدة التي جمعتنا في بلدينا وفي غيرها من المحافل والمنظمات والمؤتمرات الإقليمية والدولية.
إن أيَّ حديث عن سمو الأمير سعود وأيَّ محاولةٍ لاستحضار ذكراه العطرة، لا ينبغي أن يقف عند مجرد الثناء على الفقيد، والترحم على روحه، والإشادة الصادقة بما اتصف به من شيمٍ وشمائلَ كريمة. وإنما القصد هو إبرازُ مقوماتِ وركائزِ الدبلوماسية السعودية، التي أكمل صرحها الأمير الراحل؛ فرسخ في عهده نهجاً فريداً في ممارستها، بأسلوب راقٍ في التعاطي مع قضايا السياسة الخارجية.
وأود في هذا المقام، التشديد على أن الفقيد، خلال مساره الحافل بالمنجزات، لم يفصل بين الدبلوماسية العربية والإسلامية، بل نظر إليهما وحدتين متكاملتين في جوانبِ قُوَّتهما وضَعْفهما، مُنْصهرتين في بَوْتقة واحدة، ومنظومة يجب أن تظل متعاضدة مهما كثرت الخلافات العابرة والنزاعات المستعصية.
لقد أسدى الراحل الكبير خدماتٍ جليلةً لوطنه، المملكة العربية السعودية الشقيقة، بتفانٍ وإخلاصٍ وزُهْدٍ وتضحية، نوه بها الكثير من قادة العالم. لكنه تعامل بنفس الإقدام أيضاً مع القضايا العربية والإسلامية.
ولا أحسبني مبالغاً إن قلت إن جبهتَنا الدبلوماسيةَ يَعْتَصِرها الإحساسُ باليُتم، بعد أن فقدت فارساً ومحارباً لم يتوانَ عن خوض المعارك المشروعة.
ولا أعتقد أن الأمير الراحل، وعلى مدى أربعة عقود، قاد خلالها سفينةَ دبلوماسيةِ بلاده، في بحر متلاطم الأمواج، زاخر بالصراعات وأسباب التوتر، لا أعتقد أنه تخلى أو تردد عن الاضطلاع بواجبه في النضال الدبلوماسي، من أجل مصلحة بلاده وقضايا أمته.
في خضم كل المواقف الحاسمة، والرؤى الثاقبة التي ميزت عمله بين كثيرين من نظرائه، لا يجوز لأي ملاحظٍ مُنْصفٍ أن ينسى للوزير سعود الفيصل، مواقفه الثابتة في الدفاع المستميت عن القضايا العربية العادلة، وفي المقدمة «القدسُ الشريفُ». يبدو لي أنه اعتبر استعادة الأماكن المقدسة، أمانةً تركها والدُه جلالةُ الملك فيصل رحمه الله في عنق من خلفه من أشقائه، فلم يحيدوا عن الوصية وأوكلوا الشق الدبلوماسي فيها إلى ابنه الأمير المجاهد بأسلحة السلم والتفاوض والإقناع.
لقد أُتيح لي شخصياً أن أحضرَ إلى جانب سموه، عدةَ دورات في الأمم المتحدة واجتماعات جامعة الدول العربية ومجلس التعاون لدول الخليج العربية وغيرها من المؤتمرات الإقليمية والدولية، حيث برز الأميرُ سعود الفيصل نجماً ساطعاً متألقاً، يُنير الطريقَ لزملائه بحسه الاستباقي، مُوَظِّفا صداقاتِه وشبكةَ علاقاتِه، تَوَخِّياً للسلام والتوافق والاعتدال. يُقْنِع محاورِيه بفصاحة وسلاسة في الحديث، وَيَنْفُر بطبعه من الكلمات المُجَلْجِلة والخُطَبِ الرنَّانة. يُمْزج مداخلاتِه، حين تتوتر الأجواء، بألوان من الفُكاهة والمرَح الهادف.
إنني أسمح لنفسي بأن أذكر بعضاً من مساهماته في العلاقات البحرينية السعودية، في الدفاع عن البحرين، ضد الأطماع الإيرانية وإنهاء الخلاف الحدودي بين مملكة البحرين ودولة قطر الشقيقة، كما ساهم بقوة في إنشاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وبجهوده في إنشاء جسر الملك فهد الذي يربط بين مملكة البحرين والمملكة العربية السعودية ويقوي الوشائج والمصالح المشتركة لشعبيهما الشقيقين وذلك غيض من فيض.
ولقد جاءت عاصفة الحزم لتوجه رسالة للعالم أجمع بأن دول مجلس التعاون بقيادة الشقيقة المملكة العربية السعودية هي القوة الحقيقية والأساس في المنطقة وعلى الدول الإقليمية والقوى الدولية أن تأخذ ذلك في عين الاعتبار عند اتخاذها أي قرار يمس المصالح الخليجية أو العربية أو الإسلامية، الأمر الذي تأكد في القمة الثالثة عشرة لمنظمة التعاون الإسلامي التي عقدت مؤخراً في مدينة اسطنبول بالجمهورية التركية .
كان الأمير سعود، رحمه الله، يفضل في غالب الاجتماعات، أن يكون آخرَ متدخل للحسْم فيما هو معروضٌ على الطاولة من ملفات صعبة. تلك إستراتيجية أتاحت لسموه الإصغاءَ للمتدخلين، واسْتِجْمَاعَ منطقهم وحُجَجهم وتحليلَها، ثم يصوغ «خُطَطه» الساعيةَ دائماً إلى حل متوازن يُرْضي، قدْر الإمكان، كلَّ الأطراف حتى تعتقد أن منطقَها هو المنتصر.
ساعده على ذلك إجادتُه لعدد من اللغات الحية، وخلفيَّتُه الجامعيَّة فضلا عن سكينةٍ متأصلةٍ في نفسه ودماثةٍ في أخلاقه. لذلك اعتَبَرَهُ زملاؤه العرب ناطقاً باسمهم، يختزل المواقف ويبلور وجهات النظر في تركيبةٍ ومقترحاتٍ متوازنة.
صحيح أن الأمير الراحل استلهم المبادئَ الثابتةَ المؤَسِّسَةَ لدبلوماسية المملكة العربية السعودية. لكن الموضوعيةَ تقتضي التذكيرَ بأن سموَّه ارتقى بالسياسة الخارجية إلى مصاف المدارس الدبلوماسية العتيدة. راكم الخبرةَ واستوعب التراثَ والتاريخَ الدبلوماسيَّ ونجح في مزجه بثقافة أكاديمية من أرقى الجامعات، استوعب تعقيد العلاقات الدولية وتقلباتها، في عصر زاخر بالأزمات والحروب الباردة والساخنة، وسباقٍ محمومٍ بين الدول الطامحةِ والطامعة.
ولم يكن سهلاً أن يُحافظ على الموقع الجدير ببلاده السعودية وسط ذلك الخضم المتلاطم. وبالتالي فإني لا أتردد في القول إن الأمير الفقيد جسَّد ما يسمى «القوةَ الإنسانيةَ الناعمة» فلم يغامر ولم يتراجع.
تلك الخصال النادرةُ لا تنفي عن سموه صفةً أخرى قد تبدو متناقضة مع ما اتصف به من سجايا نبيلة. هي ما يسمى أيضاً «عنادَ المؤمن» الذي يرفض التخليَّ عن ما يعتقد أنه حقٌّ وصواب، لا يقبل التنازلَ عنه تحت أية ذريعةٍ أو مساومةٍ أو إغراء.
وبقدر ما كان رحمه الله مَرِناً، قادراً على المناورة الذكية، والدهاء المشهودِ له به، فإنه، حينما يتعلق الأمر بالمساومة على القضايا المصيرية، يتحول إلى جبلٍ شامخ، لا يتزحزح قيدَ أَنملة عن مكانه.
أصحاب السمو والمعالي، الحضور الكريم، إنني إذ أذكر الأمير سعود الفيصل، بصيغةِ الماضي حيث غاب عنا إلى جنات الخلد؛ ليس كدبلوماسي راسخِ القَدَم، أشرف على تأهيل أجيال من الدبلوماسيين في بلاده، عشق المهنة ووهبها كل ما عنده، بل أذكره أيضاً كإنسان رائع لطيف المعشر، أنيق في اختياراته الجمالية التي تركها حتى في الجانب المعماري، متجلية في مبنى وزارة الخارجية السعودية بالعاصمة الرياض الذي نال جائزة عالمية.
أجدد الرحمةَ على سموه، وأُعبِّر عن العزاء الصادق لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز حفظه الله، ولأسرة الراحل الكريمة، ولشعب المملكة العربية السعودية والأمة العربية والإسلامية، وكل الذين حزنوا لرحيله وافتقدوا صحبته ورفقة دربه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.