بذلت الدول الغربية الكبرى جهوداً جبارة، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، لخلق منظومة عالمية تم تفصيلها لضمان بسط سيطرتها الحصرية على بقية دول العالم، خصوصاً الدول النامية التي تمتلك الموارد الطبيعية كالنفط والغاز الطبيعي المتوفر في بعض الدول العربية وبعض الدول في أمريكا اللاتينية، والثروات الطبيعية كالألماس والعاج والأحجار الكريمة المتوفرة في بعض الدول الإفريقية. وتضاعفت الجهود الغربية وتوحدت بعد انتهاء الحرب الباردة، حتى بدأ تنفيذ الجزء الأخير من العملية فيما أطلق عليه بالحرب على الإرهاب. ولو عدنا على عجالة للمنظومة العالمية التي نجحت الدول الغربية الكبرى في خلقها نرى بأنها منظومة تعتمد على مؤسسات دولية ومنظمات عالمية تدعي بأنها غير حكومية، تهدف على حد زعمهم إلى الحفاظ على حقوق الإنسان وتحرير المجتمعات، وغيرها من الادعاءات، التي أصبحت مثل قصص ألف ليلة وليلة. وكما تبين لاحقاً، أن تلك الجهود والمشاريع، خصوصاً التي ارتبطت بما تم تسويقه على أنها مشاريع للعولمة وتحرير المجتمعات، كانت جميعها أدوات ضمن حزمة محكمة لإخضاع الدول النامية، والسيطرة على مقدراتها، ونهب مواردها، حتى تم إضعاف سيادتها عن طريق تلك المنظمات والمؤسسات المخترقة من الحكومات الغربية.
التقنيات الرقمية وسيادة الدول
ومع التطور التقني الذي شهده العالم منذ منتصف التسعينات من القرن المنصرم، انتقلت المنظومة العالمية، في تحولٍ نوعيٍ، من الاعتماد على الأساليب التقليدية لتنفيذ المهام المنوطة بالمنظومة العالمية المستحدثة، إلى تبني التقنيات الرقمية وأدواتها المتقدمة لتحقيق ذات الأهداف، ولكن بصورة مختلفة تماماً عما عهده العالم من قبل.
وبما أن الدول النامية كانت لاتزال في طور عملية تطوير بناها الأساسية لاستيراد واستخدام تلك التقنيات وأدواتها، كانت الدول الغربية المسيطرة على زمام الأنظمة المنتجة للتقنيات المتقدمة من جهة، والأنظمة المشغلة لها من جهة أخرى، تم إخضاع الدول النامية من خلال التقنيات الرقمية في نظام عالمي جديد، لا يختلف قيد أنملة عن الأنظمة الاستبدادية والاستعمارية التي كانت سائدة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وخصوصاً اتفاقية سايكس- بيكو وتداعياتها على دول الشرق الأوسط.
وربما كانت الثورات العربية المزعومة، من أقصى الشرق الأوسط إلى أدناه، والتي كانت صناعة غربية حصرية، هي إحدى النتائج الأولية المهمة للنظام العالمي الذي يستظل تحت التقنيات الرقمية المتقدمة، وأدوات التواصل الاجتماعي المزعومة.
ولا يخفى على أحد كيف تم نقل الأحداث التي كانت تجري في بعض الدول العربية على الهواء مباشرة، لحظة بلحظة، تغريدة وراء تغريدة، وتصريح على الفيسبوك مساند من هذه الدولة هنا، وتشجيع علني خبيث من تلك الدولة هناك.
هكذا تحول العالم العربي إلى فوضى، قيل إنها خلاقة، ولكنها في حقيقة الأمر تخلق الدمار والخراب، والقتلى الذين بلغت أعدادهم عنان السماء، من قبل جماعات من المتعطشين للطائفية وأصحاب العقائدية المقيتة، مع خلق أجيال من المنتمين لأيديولوجيات لم نسمع عنها قط في ديننا السمح الحنيف.
فكانت التقنيات الرقمية الأداة الخارقة التي استخدمتها بعض الدول الغربية لتدمير الأمة العربية، واجبارها على العودة فكرياً ومعرفياً إلى الوراء بما يعادل 1400عام، تم اختزالها في تصفيات طائفية نشاهدها على مدار الساعة في العراق المنفلت أمنه، وسوريا المستباحة أرضاً وشعباً.
الانقلاب التركي
بغض النظر عن مدى اختلافنا مع الحكومة التركية فيما يتعلق بدعمها لبعض الأمور التي لا تتماشى مع مصالح المنظومة الأساسية لدول مجلس التعاون الخليجي، ناهيك عن الانتماءات الحزبية التي يتبناها حزب العدالة والتنمية الذي يرأس الحكومة التركية في الوقت الحاضر، فإن الشاهد فيما جرى ليلة الجمعة وصباح السبت الماضيين أنتج منظومة طبيعية أعتبرها مضادة للأدوات الرقمية التي تم استخدامها لتفكيك الدول العربية منذ عام 2011، ولاتزال قيد التنفيذ من قبل بعض الدول الغربية.
لقد كان السحر الذي استخدمته الدول الغربية التي تدعم الثورات العربية حزمة من الأنظمة الرقمية ممثلة في أداوت التواصل الاجتماعي، خصوصاً التويتر والفيسبوك، ثم الإنستغرام من حيث قوة التأثير آنذاك. كانت الرسائل المتداولة عبارة عن نصوص جاهزة تم إعدادها، وإعداد الأشخاص الذين سوف يتداولونها بالتغريد أو إعادته، من خلال النشر الرقمي غير الخاضع لسلطة الدولة المستقلة، في خرقٍ غير مسبوق لسيادة هذه الدول كما نصت عليه المواثيق الدولية والقوانين المرعية من قبل الأمم المتحدة. ولكن في ظل تحول هذه المنظمة إلى لعبة بيد الدول الكبرى، أصبح من السهل تجاوز تلقي العهود والمواثيق، بل واستخدام قلق كبير مسؤولي هذه المنظمة لتوزيعه على الأحداث الجارية في وطننا العربي، بما يتناسب وأطماع الدول التي تتحكم في مقدرات هذه المنظمة.
ولكن ما حدث في مساء يوم الجمعة وقبيل فجر يوم السبت، يمكن اعتباره أول تحول نوعي لذلك السحر الذي استخدمته الدول الغربية كأداة لسحر أعين الناس طيلة السنوات الخمس الماضية.
لقد استطاع الرئيس التركي استخدام إحدى التقنيات الرقمية، وهي مكالمة على الهواء مباشرة عبر برنامج «فيس تايم» لرد الانقلاب، من خلال دعوة الشعب للنزول للشارع لصد هذا الانقلاب والوقوف أمام العملية التي بدأت لتوها. والمفارقة المهمة بأن هذا البرنامج هو أحد منتجات شركة أبل الأمريكية!! أي أن السحر الذي تم تسجيل براءة اختراعه واستخدم ونجح في تحقيق أهدافه في الدول الأخرى، قد تم إبطاله باستخدام نفس الشفرة الرقمية، فانقلب السحر على الساحر بملكية فكرية تعود حقوقه للرئيس التركي.
وهذا هو الإبداع الرباني في حماية الشعوب المضطهدة، عندما يكون الوطن فوق الحزب والجماعة والطائفة، والمعيار الحقيقي كانت الوطنية التي رأيناها في قادة المعارضة اللدودين لحزب العدالة والتنمية، الذين خرجوا على رأس المظاهرات الرافضة للانقلاب، في درس لجميع من خان وطنه وباعه من أجل أهداف لا تمت للوطن ولا شعبه بأي صلة.
*المدير التنفيذي لمركز «دراسات»