تناولت دورية اتجاهات الأحداث (Trending Events) والتي تصدر عن مركز المستقبل للأبحاث والدراسات بدولة الامارات العربية المتحدة، وبرؤية متعمقة، موضوع تحديات صنع السياسة الخارجية فيما سمته المجلة بـ (عصر انعدام اليقين).
تضمن الملحق الذي يصدر بعنوان مفاهيم المستقبل (Future Concepts)، ويهتم بتحليل المفاهيم والمقولات النظرية الحديثة أو المتقدمة)، أربعة مقالات مهمة، جاءت الأولى بعنوان اتجاهات التعقيد في صنع السياسة الخارجية، والثانية بعنوان تداعيات التداخل بين التاريخ والعلاقات الدولية، والثالثة بعنوان تأثيرات المعلومات على صناعة القرار الخارجي، وجاءت المقالة الرابعة بعنوان معوقات «الرشادة» في السياسة الخارجية.
وطبقاً لما جاء في الملف فان المداخل النظرية والتطبيقية لصنع السياسة الخارجية لم تعد قادرة على استيعاب التحولات الاستثنائية التي تشهدها السياقات الداخلية والإقليمية والعالمية. وأصبحت صناعة السياسة الخارجية تواجه تغيرات متواصلة، وتعقيدات متداخلة، وحالة من الغموض وعدم اليقين والافتقار للقدرة على التوقع. وبرز تنازع واضح على وظائف وأدوار السياسة الخارجية، فهناك الدور الرسمي التقليدي الذي تمارسه الدبلوماسية الرسمية للدول، وهناك أدوار خارجية لبعض الأقاليم داخل بعض الدول وهو ما يعرف باسم الدبلوماسية الموازية (Para-Diplomacy)، وهناك التواصل بين الشعوب، والذي تبلور في ما بات يعرف باسم الدبلوماسية الشعبية (Popular Diplomacy)، وهناك دبلوماسية المسار الثاني (Second Track Diplomacy) والتي تؤديها الشركات العابرة للحدود ومنظمات المجتمع المدني العالمي. كل هذه التطورات قادت الى خلط الأوراق، وتضارب الأدوار والوظائف والصلاحيات، ووضعت تحديات كبيرة أـمام صانع القرار في مجال السياسة الخارجية.
لقد غدا أمر صناعة السياسة الخارجية -بشكل عام- يتسم بالتعقيد، فبالإضافة إلى ما ذكرناه من تداخل الأنظمة الفرعية في عملية صناعة القرارات الخارجية، هناك أيضاً تعقيد يتعلق بالتداخل الزمني حيث يتكامل الماضي والحاضر لرسم مسار المستقبل، وهذا ما ينبغي أن ينتبه إليه ويعتمد عليه صانع القرار عند صناعة السياسة الخارجية.
إن هذا التعقيد في صناعة السياسة الخارجية قاد إلى (انتفاء السببية)، فالظواهر البسيطة تتسم بوجود علاقات سببية واضحة لحدوثها، أما الظواهر المعقدة كالسياسة الخارجية في صورتها الحالية فيصلح معها استخدام نموذج أثر الفراشة (Butterfly Effect)، ووفقاً لهذا النموذج الذي قال به في الأصل عالم الأرصاد إدوارد لورينتز، فمن المستحيل التنبؤ بأحوال الطقس لمدة طويلة، إذ من شأن تغيرات جوية بسيطة جداً أن تؤدي إلى ظروف مناخية غير متوقعة وأن «رفرفة جناح فراشة في الصين قد تتسبب في تفاعلات متتالية لحركة الهواء تتبعها فيضانات وأعاصير ورياح عاتية في أمريكا أو أوروبا أو أفريقيا، إن وجدت الشروط التي تدعمه» لكن فكرة أثر الفراشة تعدت مجال المناخ، وتوسعت تطبيقاتها في العلوم المختلفة، حتى أصبحت فكرة فلسفية عامة، تفيد أن حدثا أوليًّا مهما كان بسيطاً قد يولد سلسلة من الأحداث المتواترة والمتفاعلة في ظروف مساعدة، ينجم عنها نتائج غير متوقعة وتتجاوز الحدث الأول بمراحل، وبالتالي فان حدثاً صغيراً في مجال السياسة الدولية -طبقاً لهذا النموذج- بإمكانه أن يقود إلى أحداث عميقة الغور إذا توافرت له الظروف المناسبة، وهو ما يزيد من حالة الغموض وانعدام اليقين.
إن اندثار الحدود والاندماج المتصاعد بسبب تطور وسائل الاتصالات مع سيادة حالة عدم التوقع (أحداث الحادي عشر من سبتمبر نموذجاً)، وبروز الحديث عن الشبكات كبديل للفاعلين الدوليين بسبب قدرتهم على المساومة والضغط على الحكومات في إطار سياسات الترابط (Linkage Politics)، كل ذلك يسهم -بلا شك- في زيادة الضغوط على صانع القرار في مجال السياستين (الداخلية والخارجية) معاً.
لقد وضع علماء الاستراتيجية آليات لاحتواء التعقيد في السياسة الخارجية ومن أهمها: الترقب الحذر، وهو ما يشير إلى ضرورة أن ينتظر صانع القرار اكتمال المعطيات الواقعية والتطور الكامل لأبعاد الموقف، وأن يركز على تهيئة السياق لظهور تغيرات إيجابية تعقب التغيرات المفاجئة، واستغلال الفرص التي تنبع من قلب الأزمة مثل التضامن المجتمعي في أوقات الأزمات، مع توسيع نطاق الجماعات المنخرطة في صنع السياسة الخارجية لإدارة الموقف، بالإضافة إلى تشجيع الاختلاف الذي يسهم في ظهور أفكار غير تقليدية ومبتكرة لمواجهة الموقف، وهو ما يتطلب في بعض الأحيان تغيير المشاركين أو تبديل أدوارهم حسب ما تقتضي الحاجة.
لذا يتوجب على صانع القرار السياسي في مجال السياسة الخارجية العربية أن يتعامل مع هذا الواقع الجديد، من خلال استنباط الوسائل التي تناسبه من أجل تحقيق المصالح العليا في ظل هذه الظروف التي يصعب التحكم بها فضلاً عن تغييرها في الوقت الحالي، وكما قيل، فإن النجاح هو أن تنساب كالماء بين الصخور «Success Is To Flow Like Water Through The Road Of Rocks”.
إن حالة الغموض وعدم اليقين، والافتقار للقدرة على التوقع التي تحدثنا عنها آنفاً يمكن تبديدها -أو على الأقل التقليل من آثارها السالبة- عن طريق توفير المعلومات الصحيحة والكاملة لصانع القرار في مجال السياسة الخارجية، فمنذ أربعينات القرن الماضي دعا الجنرال الأمريكي «بيل دونوفان» رئيس الجهاز المركزي للمعلومات إلى إنشاء مكتب «خدمة المعلومات الاستراتيجية»، وكان يقول إنه «لا توجد سياسة خارجية أقوى من المعلومات التي تم الاعتماد عليها في صياغتها»، فلا بد من آلية توفر المعلومات الكافية والصحيحة وفي الوقت المناسب لصانع القرار الخارجي والتي تمكنه من الإلمام التام بالبيئة الدولية والإقليمية المحيطة بالسودان، وشخوصها ومؤسساتها حتى يتمكن من تصنيف الفاعلين الدوليين وتحديد الأعداء والمنافسين والأصدقاء، ومن ثم اتخاذ الموقف الصحيح.
ولا تكفي المعلومات وحدها، بل لا بد من توفر ما يسمى بـ(الإدراك الإيجابي)، لأن سوء الإدراك هو السبب الرئيس في أغلب الحروب والصراعات بين الدول، فحتى في حالة توفر المعلومات فان (إدراك) صانع القرار للمعلومات الواردة إليه وتفسيرها والتعامل معها يلعب الدور الأكبر في نوعية القرار الذي يتخذه، وهذه حالة نفسية لا يمكن تفادي آثارها إلا بالتزام المؤسسية في صناعة القرار الخارجي، لأنه كلما غابت المؤسسية عند صناعة القرار، كلما ظهر أثر و(إدراك) وتفسير صانع القرار، وعلى العكس من ذلك فإن القرار المؤسسي يعبر عن المؤسسة حيث يوجد اكثر من رأي وتفسير وإدراك بما يقود إلى قرار أكثر موضوعية. وبالتالي فإن العاصم لصانع القرار في مجال السياسة الخارجية من الانزلاق إلى مهاوي التفسيرات والتأويلات والإدراكات الخاطئة، هو إسناد الأمر إلى المؤسسات وليس إلى الأفراد.
كذلك لا بد من الابتعاد عن التفكير الرغبوي (Wishful Thinking) أي رؤيتنا للحقائق من خلال رغباتنا، فندرك الأمور ليس كما تحدث في الواقع، وإنما وفقاً لما نرغب فيه فنعيش أحلام اليقظة وتهرب الفرص من بين أيدينا، أو نتعايش مع التحديات والمشاكل دون أن نسعى إلى مواجهتها وحلها. هذا مسلك لا يتسق وواقع السياسة الدولية حيث الصراعات، والتحالفات، والتحركات السريعة لمواجهة التحديات، وحيث اغتنام الفرص، وإعمال الفكر، والتخطيط الاستراتيجي.
كذلك ينبغي إدراك التغيرات التي طالت الواقع السياسي الدولي وتلك التي ستحدث مستقبلاً لأن من آفات السياسة الخارجية للدول ما يعرف باسم (تثبيت الصورة) أي افتراض ثبات الأوضاع، وعدم التنبه لإرهاصات التغيير. إن إدراك التغيرات واستشراف المستقبل يتطلبان الاهتمام بالدراسات المستقبلية، والاهتمام بتكوين المجموعات البحثية والنقاشية من أجل مناقشة الإرهاصات المختلفة بهدف التنبؤ بمالات الأمور، والاستعداد لكل الاحتمالات في عصر اتسم بالغموض والضبابية وانعدام اليقين.