هذا القلب الذي يقع في صدري خلف ضلوعي بين اللحم والعظم، ينبض ويكره ويحب، هو العلامة المميزة التي يشار إليها بالبنان عندما يسقط الإنسان في براثن الحب، يلام ويعاتب ويوصف بالغلاظة واللطف، يا له من آله عجيبة ولا تقف حركته إلا عندما يسدل ستار العين عن مشاهد الدنيا. هذه الفقرة أعلاه كتبتها رائدة قبل أن تمرض وتدخل في غيبوبة لمدة خمس سنوات بسبب جرثومة هاجمت دماغها ولا يعلم إلا الله متى ستفتح عينيها وتفيق مرة ثانية!
رائدة فتاة أحبت الحياة حتى مفترق عينيها، تخرجت من الجامعة، عاشت بين ثلاث أخوات وأخ واحد، وكما أي فتاة عرفت شاباً رأت فيه فارسها وحلمها، نادر تعرفت عليه في مقهى الجامعة عندما نادته صديقتها روعة وهما جالستان على إحدى الطاولات، ولما حضر عرفته عليها فاستلطفته رائدة وأحس بذلك، ولما غادر الطاولة كانت له أمنية اللقاء برائدة مرة ثانية، وقد تحقق له ذلك عندما لعبت الصدفة دورها، ففي يوم آخر وقد كانت رائدة قد جلست في مقهى الجامعة تنتظر صديقتها روعة عندما مر نادر من جانبها وهو يحمل كأسي عصير، طلبهما له ولصديقه الذي رحل عنه فجأة واختفى، حيته رائدة وحياها ثم دعته إلى الجلوس إذا أحب ذلك، تقدم وهو يبتسم حاملاً الكأسين، جلس وهو لا يعرف ماذا يقول سوى:
- لقد رحل.. لقد رحل! و لا أعرف كيف اختفى!
كانت هذه الجملة غريبة على رائدة.. ولم تعلق عليها نظر إليها قائلاً:
- أنا آسف لقد أحضرت له العصير ولكنه اختفى فجأة..
رفعت رائدة الكأس بكل هدوء وارتشفت منه رشفة ونادر ينظر إليها معلقاً:
- مكتوب لك وليس لغيرك!
ضحكا معاً.. وتهامسا وطالت مدة جلوسها إلى أكثر من ساعة، لا روعة صديقة رائدة حضرت ولا صديق نادر شرف!
كانت تلك الساعة التي جلسا فيها بمثابة حظيرة قد جمعتهما، أسوارها من ذهب، والتقت الألسن والقلوب حتى سقطت مشاعرهما في بئر كان ماؤه قد تحول إلى سائل اسمه الحب! توطدت العلاقة وانبنى الود، وتبادلا الهدايا والرسائل التي حررت القلوب وأشعلتها، توظفت رائدة، وحلمت بمستقبل وردي يحيط بها نادر من كل الجهات، فارس حبها الذي أصبح يمثل حياتها ويجري في عروقها مجرى الدم. وإذا تذكرت اسمه وهو بعيد عنها فاضت مشاعرها، وارتعشت أطرافها، ولم تسكن، ولما حددا يوم الخطوبة كانت رائدة كأنها وقد تسلقت أعلى قمة على وجه الأرض من فرط سعادتها، بهذه المناسبة التي حلمت بها دائماً وأفرغت فيها كل أمنياتها، والزمن لا يرحم أحياناً، فقد قسى عليها وضربها ضربة موجعة عندما أصيبت بحالات تعب وإغماء متكررة لأسباب لم يعرفها الأطباء لا بالتشخيص ولا بالأعراض كانت نتائجها أن دخلت رائدة في غيبوبة وهي لم تزل مغمضة العينين لا ترى من مناظر الدنيا إلا السواد المعتم، ومرت خمس سنوات، وكان حبها لنادر قد تجمد داخل القلب، وتوقف الزمن في لحظة إصابتها بالمرض! أما نادر فقد ضاقت به الدنيا، وأصبح كما الحيوان الذي وقع في مصيدة لا سبيل إلى الفرار منها، صبر مدة وصبر أخرى حتى حاول الخلاص فكلما مر عام تمزق قلبه أكثر، بينما رائدة قد تشبع لحمها بحبه وقلبها بعطفه، وهي لازمة الفراش، صامتة صمت الأطلال! يدعو لها الجميع بالصحة والإفاقة!!
بكى نادر كثيراً من لوعته وأساه حتى أدركه اليأس وتبددت كل آماله وأحاطت بقلبه آهات وويلات فتزوج بعد أربع سنوات ولما مضت سنة أخرى وأنجب طفله الأول اتصل به من يخبره أن رائدة قد أفاقت من غيبوبتها! ولما انتهت المكالمة، كان كمن تجمد داخل براد ورجعت له أفكار، ومناظر ومشاهد وصوت ضحك بينه وبين رائدة، هز رأسه فجأة ونهض من على كرسيه بحركة سريعة، ولكنه أفاق من ناحية أخرى وتذكر أنه متزوج! ولديه طفل، بدأ ينفخ كالذي جرى عشرات الكيلومترات دون أن يجري، جلس على كرسيه مرة ثانية وتذكر زوجته وطفله، تذكر أهله، والدته ووالده وتذكر وتذكر حتى كاد يصرخ، ولكنه بدأ يهذي قليلاً بكلام مسموع..
- كيف؟؟ أنا.. خنتها!! رائدة! حبيبتي.. وجهها.. عينها.. قوامها.. ضحكتها، لمسة يدها!! حديثها...آه أنا في دوامة! أكاد أسقط، ولما نظر إلى سطح طاولته رأى عليها بقعاً من ماء، رفع يده لامست خديه وعرف أن دموعه خانته ولم تستأذن منه لكي تخرج وهو في حالة حزن كهذه، قال..
- حتى أنت يا دموعي!!
في الجانب الآخر، كانت عائلة رائدة قد التمت حولها، ونشطت في أحياء ذاكرتها، وهي لم تنسَ شيئاً بل كانت أساطيل الفرح تعباً في عينيها، ولما سألت عن نادر توقفت الألسن حولها، وتبادل الجميع النظرات وساد الصمت، خارت عينا رائدة، وصار تنفسها صعباً، إلا أن والدتها أدركت هذا وقالت بهدوء
- نادر يا حبيبتي!.. وتوقفت عن الكلام
- ماذا به.. هل.. مات؟
- لا.. قالت لها والدتها ولكنه رحل عنك..!
- رحل عني؟؟ كيف؟؟ وأين !! إلى أين سافر يا أمي؟
- رحلة الإنسان يا رائدة تبدأ من زواجه!
صرخت رائدة
- لا!! لا تكذبي عليّ يا أمي.. إن حبه قد تمازج مع قلبي، ونظرت إليهم جميعاً... ثم كررت
- أيعجبكم أن تكذبوا عليّ وأنا في هذه الحالة؟
بدت غرفة رائدة وكأن لا أحد فيها من شدة الصمت الذي خيم على الجميع!. ولاحظو كم هي حزينة، وانشق فؤادها جزأين بالكاد أحدهما ينبض!، وتحطمت آمالها.
- وهي تكرر أحقاً تزوج نادر وتركني في هذا العالم وحيده حزني وآلامي؟ ثم تنهدت وصمتت، خرج الجميع من غرفتها بطلب من الدكتور، الذي نصحهم بالرحيل كي لا تعود إليها حالة الغيبوبة.
تركوها كومة من الهم والحزن، كئيبة الحال، مكسورة الخاطر، وتكاد بحيرة عينيها تجف من مائها بسبب دمعها الذي بدأ يجري كالنهر الغاضب، لا توقف ودون إرادة منها.
مرت أيام، وأسابيع، لم يترك لنادر منفذ! لم تنقذه ضحكة زوجته، ولا بسمة ابنه من براثن هذا التطور المؤذي! بدأ الهزال يدق طبوله له، كره الأكل، ومصاحبة أصدقائه، والخروج مع زوجته، ولما لاحظت زوجته ذلك، أرادت أن يفتح لها قلبه لتساعده على تخطي مشكلته ولكنه أبى وصمت. المرأة هي أكبر حيلة، وأكبر ملاحظ، وأكبر قادر على اكتشاف الحقائق. ولما بدأت تسلط قواتها الذاتية، لتكتشف هذا اللغز العجيب الذي بدأ يحيرها وهي تضرب بسهامها يميناً وشمالاً. عرفت بقصة حبه مع رائدة، هكذا المرأة دائماً، لقد خلقت راداراً آدمياً طبيعياً قبل أن يكتشف الرادار الصناعي.
عند الساعة الخامسة في إحدى أمسيات أيام الربيع، وعندما فقد نادر الكثير من وزنه كان قد رجع إلى البيت مهلك الحال، تعباً، لا يقوى على رفع حاجبيه دخل بيته، ولما أغلق الباب خلفه ورفع عينيه، كان بالصالة منظر هاله وتوقفت حركته وجمدت عيناه، وكاد أن يتحجر في موقعه لو لا إصراره على ما تبقى له من حياة وقوة. لقد رأى رائدة جالسة بالصالة وفي ضيافة زوجته!! وبدأت عروق جسده تضيق وكأنها تأبى تحرك دمه فيها، وقدماه انشلت وكأنها منعت من المشي بقدرة قادر!! رن في أذنه صوت زوجته يدعوه للدخول
- تفضل يا نادر!!
تقدم بخطوات يجر بها قدميه، وقد امتزج لديه في آن واحد نوع من الرغبة في الحياة والموت!! ولما جلس وهو ينظر إلى رائدة وكأنه يراها لأول مرة في حياته، قالت له زوجته
- رائدة.... حبيبتك السابقة!!
سمع هذه الجملة من زوجته وكان لها وقع القنبلة المؤذية على مسامعه! التفت إلى زوجته غير متكلم!!
- نادر! قالت له رائدة
ثم قالت له زوجته
- قد أنحني بهامتي لك يا نادر، إن حبك النائم في صدرك قد أفاق مع رائدة عندما أفاقت من غيبوبتها! وليس عيباً أن يكون للإنسان حبيب مجهول يسيطر على فؤاده زمناً طويلاً.
- لا!! قال نادر لا!!
وكانت رائدة تسمع!
- لقد رجع في زمن...
قاطعته رائدة
- نادر! أرجوك هذه زوجتك ولك ابن منها! إن ما لا أحتمله اليوم جراء حبي لك قد يحرق قلب هذه الزوجة الرائعة غداً!!
وقفت.... وهو ينظر إليها مخنوقاً لا يستطيع التنفس، فقال:
- إني بالكاد أعيش.. ولا أميز بين الأصفر والأحمر
- يجب أن تعيش قالت رائدة وهي تبكي بصمت.. يجب أن تعيش مثل أي رجل يحمل في صدره قلباً يؤنس من أحبه! هي زوجتك الآن وأنا حبك القديم وبين هذا وذاك قرار يجب أن يكون صائباً والصواب هو
- أرجوك قاطعها.. كفي!! إني ميت لا محالة يا رائدة
- لن تموت ما دمت أنا أستطيع أن أفك قيد ألمي وأنت من هو أرجوه أن يحيا كما يحيا البشر!
لك الآن حياتك! وإن كتب وسطر لي القدر حياتي فسوف أعيش كما يبغي القدر!! لقد أتتك الفرصة وتزوجت وها أنت تعيش في بيت آمن، جدرانه قد ختم عليها بختم طبيعة الحياة، بينما حبي لك قد أصبح خراجها، سأكون مسرورة جداً بزواجك.
وقفت زوجته وقبلتها على جبينها... وهمست في أذنها
- إنه يحبك.. ولو تخليتي عنه سيتحطم أكثر وربما يموت!
تراجعت رائدة خطوتين وهزت رأسها رافضة هذا العرض..
- ليس لي الحق الآن أن أستله من قلبك.. فأنت أحق مني به.. أرجوك
- كيف... وتوقف عن الحديث
علقت رائدة
- كيف ستعيش بدوني؟؟ خذ ما شئت من الحياة وضع حبي على جنب، تذكره قليلاً ثم التفت إلى زوجتك سترى فيها الوجه المشرق والابتسامة الرائعة التي ينبع من خلفها حب كبير قد زرع في قلبيكما أنتما الاثنان أما أنا فسيكون لي عالمي. ثم التفتت إلى زوجته قائلة
- إياك أن تفلتي بالنفيس في حياتك، أنا مجرد حب عابر سيطير غباره وربما يجتمع حيناً آخر في قلب رجل آخر يحبني مثلما أحبني نادر والذي اعتبر حبه قد توارى عن نظري وسقط في هوة لا عمق لها. وداعاً.
(أقولها بأن التضحية تؤدي إلى نجاحات مختلفة في أمور كثيرة) هي التي ضحت.. هي التي انسحبت وهي التي عاشت تتألم بذكرى حب زرع من بذرة تألفت مع تربة القلب الذي أصبح منزوع الهوى وميت الدقات!
عندما بلغت رائدة الخامسة والثلاثين تزوجت من رجل آخر أحاطها بهالة من الحب والحنان وأشفق عليها، ثم أنجبت منه ولدين وبنتاً، وسارت في حياتها كما طلب القدر منها أن تسير! ولنعرف دائماً بأن يومنا هذا لا يشبه الأمس ولن يشبه الغد!! لأننا نعيش في زمن تتقلب فيه القلوب! مع تغير الأحداث المفاجئة في حياتنا.
بقلم/ حمد الشهابي