بول ستيفنز
ظلت شركات النفط الدولية الكبرى - وعلى رأسها: إكسون، وموبيل، وشيفرون، وجلف أويل، وتكساكو، وبريتيش بتروليوم، وشل، وتوتال - تهيمن على مجمل أنشطة صناعة النفط، استخراجاً وتكريراً وتسويقاً ونقلاً، حتى سبعينيات القرن العشرين، لكن هذه الهيمنة بدأت تتراجع بفعل تأسيس شركات وطنية للنفط والغاز في الدول المصدرة للنفط من خارج أمريكا الشمالية والدول الشيوعية.
وحاولت شركات النفط الدولية الاستجابة لهذا التحدي في تسعينيات القرن الماضي، بتطوير نموذج أعمال يهدف إلى تعظيم حقوق المساهمين. لكن ذلك النموذج لم يثبت فعاليته في مواجهة التحديات، وأصبح مستقبل هذه الشركات غير مضمون.
في هذا الإطار، تسعى دراسة بول ستيفنز التي نشرها معهد شاتام هاوس في مايو 2016 بعنوان «شركات النفط الدولية: موت نموذج الأعمال القديم» إلى الإجابة عن الأسئلة الآتية: ما هو نموذج الأعمال القديم؟ وما دلائل فشله؟ ولماذا ظل يفشل؟ وهل لفشله أهمية؟ وما الحلول المتاحة أمام شركات النفط الدولية؟.
نموذج الأعمال القديم
استمد نموذج أعمال الشركات النفطية الدولية الذي برز منذ تسعينيات القرن الماضي جذوره من نموذج تثمين الأصول الرأسمالية الذي طورته معاهد إدارة الأعمال في الستينيات، وذاع صيته في الصناعة النفطية على اعتبار أنه يوفر أساساً علمياً لقياس كلفة رأس المال والعائد منه، ومن ثم تقويم الجدوى المالية للمشروعات. ووفقاً لهذا النموذج، أصبح شاغل الإدارات العليا في شركات النفط الدولية هو تعظيم الفائدة على رأس المال من خلال تعظيم الاحتياطيات النفطية وتقليل التكاليف، ليتسنى توزيع الأرباح على حملة الأسهم بأعلى قدر ممكن وأكثره استدامة.
المثير في هذا الإطار أن تبني هذا النموذج كان ثمرة التغير الداخلي في شركات النفط، وصعود جيل الشباب من حملة ماجستير إدارة الأعمال من أرقى الجامعات إلى سدة الإدارة؛ وبروز مصلحة للإدارة العليا في تعظيم قيمة الأسهم في ظل اتجاه عالمي لمكافأة المديرين بحصص من أسهم شركاتهم.
كان من الممكن تحقيق هدف تعظيم الاحتياطيات المؤكدة القابلة للبيع من خلال الحفر الاستكشافي، وإجراء التقويمات للتثبت من أن أحجام النفط في مستودَع ما قابلة للتعافي باستخدام التكنولوجيا المعروفة وبالأسعار الجارية؛ أو من خلال شراء الشركات الأخرى ذات الاحتياطيات المؤكدة في سجلاتها. وكانت زيادة الاحتياطيات القابلة للبيع تعني خلق توقعات بعوائد مستقبلية، والسماح للشركات بإضافة النفقات الرأسمالية إلى ميزانياتها، وتقديم مؤشر يطمئن المستثمرين على تحسن أدائها.
أما هدف تقليل النفقات، فقد حاولت شركات النفط الدولية تحقيقه من خلال التوسع في تعهيد أكبر عدد ممكن من الخدمات اللازمة إلى مزودي الخدمات الخارجيين، بحجة أن التنافس الناجم بين مزودي الخدمات سيقلل النفقات.
ويصعب تقديم دليل حاسم على اضمحلال نموذج أعمال شركات النفط الدولية القديم، لأن ذلك الاضمحلال كان عملية من التدهور التدريجي، ولم ينته بكارثة. لكن أعراض معاناة هذا النموذج كثيرة، وأبرزها فشل شركات النفط الدولية في تحقيق هدف جوهري من أهداف نموذج أعمالها، وهو تنمية الاحتياطيات النفطية. وتمثل عَرَض آخر بالأداء البائس لشركات النفط الدولية في السوق المالية.
وحاولت هذه الشركات التغلب على استياء حملة الأسهم بتضخيم الأرباح، وزيادة أثمان الأسهم بإعادة شرائها. ويرتبط عرض ثالث بهبوط معدل العائد على رأس مال شركات النفط الأمريكية والأوروبية الكبرى من 21% عام 2000 إلى 11% عام 2013، بينما كان سعر النفط يرتفع في الفترة ذاتها من 29 دولاراً إلى 109 دولارات. واضطرت شركات الطاقة بين عامي 2011 و2014 إلى بيع أصول، وزيادة دينها من أجل الاستمرار في توزيع الأرباح وشراء الأسهم.
لماذا فشل نموذج الأعمال القديم؟
توسعت الدراسة في هذا الجزء، وأفاض المؤلف في تحليل أسباب إخفاقات نموذج الأعمال القديم لشركات النفط الدولية منذ أوائل التسعينيات، موضحاً الاختلالات الأساسية والمشكلات الممتدة، والتحديات المستجدة، وذلك على النحو الآتي:
أولاً: الاختلالات الأساسية الممتدة: يتمثل أحد الاختلالات الأساسية بميل شركات النفط الدولية المستمر إلى اتباع استراتيجيات واتخاذ قرارات متماثلة، ضمن وفاق ضمني، وخسارة الجميع عندما تأتي النتائج على عكس التوقعات السائدة.
ومن الاختلالات الأساسية أيضاً أن نموذج تثمين الأصول الرأسمالية الذي يمثل الأساس لنموذج أعمال شركات النفط الدولية يهون من شأن المخاطرة، ويعد مضللاً ومزاجياً.
ومن الاختلالات الأساسية كذلك فقدان التميز التقني لشركات النفط الدولية بسبب تعهيد مختلف أنشطة سلسلة القيمة، وهو ما جعل هذه الشركات تحد من أنشطة البحث والتطوير داخلها، لتنتقل هذه الميزة إلى شركات الخدمات، وخصوصاً في مجال الإنتاج. كما فقدت الشركات النفطية الكبرى ميزتها الإدارية، بسبب إدارات فاقدة للقدرة التنافسية، وتعاني مشكلات في الاتصال والتنظيم والتنسيق.
ثانياً: المشكلات الممتدة في مجال إنتاج النفط الخام: تمثلت أولى المشكلات الخاصة بمجال إنتاج النفط الخام في اتفاقيات الشراكة الإنتاجية التي أبرمتها شركات النفط الدولية مع الحكومات التي سمحت لها بالتنقيب والتطوير ضمن أراضيها، وسَعت الشركات من خلالها إلى حماية أدنى سعر في حال تراجع الأسعار، مقابل التنازل لتلك الحكومات فيما يتعلق بأعلى سعر إذا ارتفعت الأسعار، وكان ذلك في وقت اتفقت فيه شركات النفط على أن الأسعار ستنخفض، وهو ما حدث بالفعل عام 1998، لكن عندما عاودت الأسعار ارتفاعها بعد عام 2002 لم تستفد الشركات كثيراً من الربحية الزائدة نتيجة هذا الارتفاع، وساد الإحباط بين حملة أسهمها.
المشكلة الثانية تتعلق بصعوبة الوصول إلى احتياطيات قليلة التكلفة، وذلك بفعل النزعة المستمرة لتأميم الموارد في كثير من الدول المنتجة، والمنافسة المتزايدة على مناطق الامتياز بين شركات النفط الدولية الساعية إلى العمل خارج دولها، والموروثات الإمبريالية للدول المضيفة، وخسارة تلك الشركات لميزاتها التقنية، وولعها بالحجم الكبير لتحقيق إضافات كبيرة إلى احتياطياتها بنفقات قليلة، وإهمال مشروعات بدت صغيرة لكنها كان من الممكن أن تحسن على نحو تجميعي من هذه الاحتياطيات.
ثالثاً: المشكلات الممتدة في مجال التكرير والتسويق: تعثرت عناصر التكرير والتسويق في ميزانيات شركات النفط الدولية عقب صدمة النفط في السبعينيات وانهيار هوامش التكرير، واتجه الكثير من هذه الشركات إلى بيع ما تستطيع بيعه من هذه الأصول رديئة الأداء، لكنها لم تجد إلا القليل من المشترين في السنوات الأخيرة، وبِيع بعض المصافي بدولار واحد، وبعضها أبقي عليه لاعتبارات وطنية، لكنها تحولت إلى منشآت للتخزين. غير أن شركات، مثل بريتيش بتروليوم وتوتال في السنوات الأخيرة، افترضت أن امتلاك أصول تكرير وتسويق في ميزانية الشركة يمكن أن يمثل تحوطاً في مواجهة مخاطر انخفاض سعر النفط الخام؛ حيث يمكن تعويض النقص في ربحية إنتاج الخام بزيادة هوامش الربح المرتبطة بالتكرير.
رابعاً: مشكلات التمويل الممتدة: تغيرت الأسواق المالية منذ الأزمة العالمية في عامي 2007-2008 تغيراً جوهرياً. كان هناك تحرر متزايد من سحر المشروعات الكبيرة طويلة الأمد عالية المخاطر. وبما أن هذه هي بالضبط نوعية المشروعات التي تولتها شركات النفط الدولية، فليس مفاجئاً أن يصبح حملة أسهمها أقل انبهاراً بها.
وعلى الرغم من أن أحد العناصر الأساسية في نموذج أعمال شركات النفط الدولية هو تقليل النفقات من أجل زيادة عوائد المساهمين، فقد شهد العقد الأول من الألفية الثالثة فترة من التضخم الفادح في كلفة المشاريع، بسبب النمو الاقتصادي السريع، وخصوصاً في آسيا، وبدء دورة سلعية عملاقة، وانعكس ذلك على عقود التزويد مع شركات الخدمات. وتفاقم هذا التضخم بفعل النقص من العمالة الماهرة.
خامساً: المشكلات المستجدة: الكربون غير القابل للحرق: الفكرة الكامنة وراء مفهوم «الكربون غير القابل للحرق» هي أن حرق الاحتياطيات المتاحة في العالم من الفحم والنفط والغاز، سوف يُنتج كميات من الكربون تتجاوز الحدود المسموح بها لتحقيق هدف الحد من الاحترار العالمي، وفق الاتفاقيات الدولية. بهذا المعنى، وفي هذا السياق، يصبح رصيد الموارد الكربونية غير قابل للحرق، وهكذا تصبح قيمة الاحتياطيات التي تحرص شركات النفط الدولية على زيادتها مبالغاً فيها، ولهذا تداعيات خطيرة على هذه الشركات وحملة أسهمها، وعلى الأسواق المالية والاستقرار المالي لدول كثيرة.
بيد أن هذه الحجة والنقاش الدائر بشأن «فقاعة الكربون» يجب التعامل معهما بحذر؛ لأن سياسات الحد من التغير المناخي لن تطبق فوراً، وأمام شركات النفط الدولية فسحة قد تزيد على 15 سنة للإنتاج، والتوسع في إنتاج الغاز، وبيع احتياطياتها الهيدروكربونية.
لكن ذلك لا ينفي الحجة الأخلاقية التي تطالب شركات النفط الدولية بتحمل مسؤولية التأكد من أن حرق كربونها لا يفضي إلى تأثيرات كارثية على المناخ. هذه الحجة الأخلاقية تتجاوز الجدل الفلسفي، وتكتسب قوة كبيرة، تتجسد في إجبار مستثمرين على بيع أسهمهم في شركات للنفط والطاقة، وتحول اهتمام الجيل الجديد من الخريجين اللامعين إلى العمل في شركات خضراء، ومطالبات حملة الأسهم شركات الطاقة بتقرير مدى تعرضها لمخاطر مرتبطة بالتغير المناخي وسياسات مواجهته، والخصومات المتزايدة مع هذه الشركات بسبب أثرها البيئي.
سادساً: الصعوبات المستجدة: أسعار النفط المنخفضة: قد يظهر أن انهيار سعر النفط الخام منذ يونيو 2014 يشكل تهديداً لنموذج أعمال شركات النفط الدولية، لكن المسألة أكثر تعقيداً، لأن الأسعار الحالية لا تعتبر منخفضة إلا بمقارنتها بالطفرة السعرية التي حدثت بعد عام 2005 وبعد عام 2011، بينما كانت الأسعار في معظم الأوقات الأخرى تدور حول السعر الحالي.
كما إن الشروط المالية لتعامل شركات النفط الدولية مع الحكومات المنتجة للنفط تجعل الحكومات المنتجة هي التي تتلقى الضربة الكبرى من انخفاض أسعار النفط الخام، وليس شركات النفط الدولية. وبالنظر إلى أن شركات النفط الدولية مندمجة رأسياً، فإن هبوط تكلفة الزيت الخام تحسن، جدلاً، من هوامش التكرير، وتساعد من ثم على استرداد الربحية. وأخيراً، ترى شركات النفط الدولية أن أسعار النفط تتخذ شكل الدورة، ولذلك، فكل ما تحتاجه هو البقاء خلال فترة انخفاض الأسعار، وتوقع مجيء الأسعار المرتفعة.
ومع ذلك فإن الانهيار الحالي في الأسعار ربما يكون مختلفاً، ويرجح أن تظل هذه الأسعار عند مستوياتها الراهنة فترة أطول مما يتوقعه الكثيرون، وذلك بسبب ثورة تقنيات النفط الصخري التي ستجعل استجابة العرض أكثر مرونة في حالة ارتفاع الأسعار، وإمكانية لجوء الحكومات المحبطة من الأسعار الحالية إلى تحقيق عوائد من خلال زيادة الإنتاج، وجذب الاستثمارات بفتح مجال إنتاج النفط الخام لشركات النفط الدولية، وأخيراً فإن انخفاض أسعار النفط قد لا ينعكس في صورة انخفاض في أسعار المنتجات النفطية، ومن ثم زيادة كبيرة في الطلب عليها، وذلك بسبب لجوء حكومات كثيرة إلى فرض ضرائب مبيعات على تلك المنتجات، ورفعها الدعم عنها أو تقليله، سعياً إلى زيادة حصيلتها من العوائد، واستجابة للسياسات الهادفة إلى تقليل الانبعاثات الكربونية.
الإسهام الحالي لشركات النفط الدولية في الإنتاج العالمي للنفط الخام والغاز صغير نسبياً، ولذلك يفترض أن هذه الشركات إن اختفت فلن يفتقدها أحد من حيث العرض. ومع ذلك، فإنها تتمتع بأهمية في مجالات أخرى؛ مثل: قيمتها السوقية التي تقارب التريليون دولار، وأهميتها لصناديق التقاعد وحسابات التقاعد الفردية، إضافة إلى دور هذه الشركات في مجال السياسة الدولية الذي كان دائماً محل جدل. ولعبت شركات النفط الدولية أدواراً محورية في تطوير تقنيات صناعة النفط والغاز تاريخياً، لكن كثيرًا من هذه الأدوار لن يفتقد، أو ستتولاه شركات الخدمات، وشركات النفط الوطنية، وشركات القطاع الخاص غير المندمجة الأصغر حجماً.
حلول متاحة
وإذا كانت شركات النفط الدولية سترفض اضمحلال نموذجها القديم للأعمال، وستحاول مقاومة ذلك، فإن السؤال هو: ما الخيارات المتاحة أمامها للنجاة؟
يمكن لشركات النفط الدولية أن تعتمد على استراتيجية كبرى جديدة تتمثل في تقليص قاعدتها الرأسمالية لمواءمة الطلب المحدد. ويمكنها تحقيق ذلك من خلال حلول عديدة متكاملة، وهي: ضغط النفقات، وانتظار تحسن أسعار النفط، وتحقيق مزيد من الاندماجات العملاقة، وافتراس بقايا ثورة النفط الصخري في الولايات المتحدة، وإعادة تكوين المحافظ الاستثمارية، وتنويع الأنشطة بعيداً عن النفط والغاز، وإعلان نفسها شركات ضمن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، لضمان العمل في مناطق أقل مخاطرة، والاستثمار في بناء تقنياتها الخاصة لاستعادة ميزاتها التقنية.
المصدر: المركز الإقليمي للدراسات الإستراتيجية