عادل عبدالغفار
في الوقت الذي تستمر فيه أسعار النفط في الهبوط، اضطرت دول الخليج إلى إعادة التفكير في كيفية تمويل حكوماتهم وإنفاق المال. على مستوى الإيرادات، وبعد عقد من النقاش، قررت بعض دول مجلس التعاون الخليجي أخيراً فرض ضريبة على القيمة المضافة (VAT) في العام 2018. هذه هي الضريبة الأولى من نوعها التي ستُفرض على مواطني المنطقة وسكانها الذين اعتادوا على بيئة ضريبية منخفضة. هذا وقد زادت دول مجلس التعاون الخليجي جهودها الرامية إلى تنويع اقتصادها بعيداً عن النفط والغاز. كما وأنها قد بدأت بإجراء سلسلة من الإجراءات، تختلف قساوتها بحسب البلد، لخفض الإنفاق.
هذه وغيرها من القضايا كانت موضع نقاش الندوة التي نظّمتها مركز بروكنجز الدوحة يوم 10 فبراير كجزء من نقاش أوسع على مستوى المنطقة حول كيف ستتمكّن دول مجلس التعاون الخليجي من التكيّف مع انخفاض أسعار النفط والغاز.
الإنفاق في ظل 100 دولار للبرميل
حققت الدول المنتجة للنفط، خلال معظم سنوات العقد الماضي، عائدات غير متوقعة نتيجةً لأسعار النفط المرتفعة، وجاء إنفاقها على مستوى هذه العائدات. في فنزويلا، موّل الرئيس الراحل هوغو تشافيز ثورته البوليفارية محلياً ودولياً من عائدات النفط. وحين بدأت احتجاجات الربيع العربي في العام 2011 تنتشر في الجزائر، ثاني أكبر الدول الإفريقية إنتاجاً للنفط، راجعت الحكومة ميزانيتها السنوية ورفعت الانفاق العام بنسبة 25 بالمئة واستخدمت المبلغ الإضافي كمساعدات ومخصصات اجتماعية وسكنية وللقطاع العام. في روسيا، أسرف فلاديمير بوتين في الإنفاق، فبلغ الإنفاق على دورة سوشي للألعاب الأولمبية 51 مليار دولار علماً أن ميزانية هذا المشروع الأساسية تبلغ 7.5 مليار دولار فقط.
مكّنت أسعار النفط المرتفعة دول مجلس التعاون الخليجي من الإنفاق بسخاء على البنية التحتية والدفاع والتعليم وأجور القطاع العام والدعم. في المملكة العربية السعودية، بدأ الملك الراحل عبدالله بناء مدينة ضخمة في الصحراء بتكلفة 100 مليار دولار ستشمل 1.2 مليار دولار لبناء برج المملكة المتوقع أن يكون أعلى بناء في العالم. في الكويت، ما زال أكثر من 90 بالمئة من المواطنين يعملون في القطاع العام. وبسبب تزايد التوترات الأمنية الجيوسياسية الإقليمية، أنفقت دول الخليج مجتمعة حوالي 113 مليار دولار على المعدات العسكرية في العام 2014، وكان نصيب المملكة العربية السعودية وحدها حوالي 81 مليار دولار. بالإضافة إلى ذلك وفي أعقاب الربيع العربي، أنفقت دول مجلس التعاون الخليجي 150 مليار دولار على الدعم الاجتماعي بهدف التخفيف من تأثير الثورات في المنطقة.
انخفاض سعر البترول والآثار المترتبة
وبالانتقال سريعاً إلى العام 2016، انخفض سعر برميل النفط بنسبة أكثر من 70 بالمئة من قيمته منذ يونيو 2014. وفي الوقت نفسه، تشير توقعات منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) إلى أن مستويات الأسعار لن تعاود الارتفاع إلى 100 دولار للبرميل قبل العام 2040. لقد محا انخفاض أسعار النفط أكثر من 340 مليار دولار من عائدات دول مجلس التعاون الخليجي في العام 2015 وحده، مما اضطر عواصم هذه الدول إلى إعادة تقييم مصادر الدخل والإنفاق. في المملكة العربية السعودية، أشار ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى أن المملكة ستسعى لتعزيز العائدات. وأكد أنه لا توجد أي خيارات مستبعدة، بما في ذلك خصخصة أجزاء من شركة أرامكو، التي تعتبر أعلى الشركات قيمةً في العالم.
في خطاب ألقاه أمير دولة قطر في العام 2015، أشار إلى أنّ انخفاض أسعار النفط لا ينبغي أن يكون مدعاة للذعر بين الناس، ولكنه في الوقت نفسه، أخبر القطريين أنّ “الحكومة لم تعد قادرة على توفير كل شيء”. إصلاحات على هيكل الدعم.
هذا وقد قامت العديد من دول مجلس التعاون الخليجي بإجراء إصلاحات على الدعم؛ في المملكة العربية السعودية، زادت أسعار البنزين بنسبة 50 بالمئة في العام 2015، مع رفع أسعار المياه والكهرباء. في ديسمبر 2015، أقرّ مجلس الوزراء في سلطنة عمان مجموعة من تدابير التقشف شملت خفض انفاقات القطاع العام واصلاحات على الدعم.
ضرائب من دون تمثيل
بالإضافة إلى خفض الانفاق العام، أعلنت دول مجلس التعاون الخليجي أنها ستبدأ بتطبيق ضريبة على القيمة المضافة في العام 2018 بنسبة 5 بالمئة، وتعتبر هذه الضريبة الأولى من نوعها في منطقة تشتهر ببيئة منخفضة الضرائب. رغم ذلك، وبالمقارنة مع الضريبة على القيمة المضافة التي تفرضها الدول الأخرى حول العالم بمعدلات أعلى بكثير، تبقى هذه النسبة بسيطة نسبياً.
رغم إجراء بعض التخفيضات على الدعم، لا تزال دول مجلس التعاون الخليجي تتمتع بمجموعة واسعة من الخدمات الحكومية السخية التي تشمل توزيع الأراضي والإعانات ودعم الدخل والتعليم المجاني والرعاية الصحية. بالإضافة إلى ذلك، لا يزال الدخل الشخصي بمنأى عن الضرائب. لهذا السبب، من غير المحتمل أن تشكل هذه الضريبة بنسبة 5 بالمئة تحدياً بالنسبة للعلاقات القائمة بين الدولة والمجتمع بين حكام دول مجلس التعاون الخليجي وشعوبهم. ولكن، في حال رأت حكومات دول مجلس التعاون الخليجي أن هذه الـ 5 بالمئة تكفي لجمع عائدٍ كافٍ من دون أن تثير معارضةً واسعة النطاق، يمكنها دائماً أن ترفعها مع الوقت. في حال أصبح العبء الضريبي أثقل في المستقبل، من المحتمل عندها أن يطلب مواطنو دول مجلس التعاون الخليجي محاسبة وتمثيلاً أعلى من قبل حكومات دولهم.
القدرة على تخطي الأزمة
حالياً، ليست دول مجلس التعاون الخليجي في حاجة ماسة إلى العائدات التي قد تنتج عن الضريبة على القيمة المضافة – فرغم التقارير المحذرة جداً، يمكن لهذه الدول أن تتخطى أسعار النفط المتدنية على مدى القصير.
أولاً، يمكن لدول مجلس التعاون الخليجي أن تستفيد من صناديق الثروة السيادية في حال دعت الحاجة. استناداً لمؤسسة صندوق الثروة السيادية، تمتلك صناديق الثروة السيادية في دول المجلس التعاون الخليجي أصولاً بقيمة 2,6 ترليون دولار، أي نحو 3 بالمئة من أصول مؤسسة صندوق الثروة السيادية في مختلف أنحاء العالم.
ثانياً، بالإضافة إلى امتلاكها بعضاً من أكبر احتياطي النفط المثبت، تبقى كلفة الإنتاج الأقل عالمياً، ويتجسد ذلك في قدرة المملكة العربية السعودية على إنتاج النفط بـ 10 دولارات للبرميل الواحد، وقدرة الكويت على إنتاج البرميل بـ 8,5 دولارات.
ثالثاً، تُعرف دول مجلس التعاون الخليجي بأقل نسب الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في العالم، وستتمكن من الاقتراض براحة من الأسواق النقدية الدولية عند الحاجة. تشير هذه العوامل جميعها إلى أنه رغم أن حكومات مجلس التعاون الخليجي ستعاني عجزاً في الميزانية خلال السنوات القليلة المقبلة بسبب انخفاض أسعار النفط، سيكون بإمكانها أن تتخطى الأزمة.
تحويل الأزمة إلى فرصة
بالنظر على المدى الطويل، تقدّم أسعار النفط الحالية لحكومات مجلس التعاون الخليجي فرصة لإصلاح اقتصادها لخير الجيل المقبل. يثير إصلاح دعم الطاقة جدلاً أقل في بيئة تنخفض فيها أسعار النفط. بالإضافة إلى ذلك، كانت حكومات مجلس التعاون الخليجي صريحة مع مواطنيها الواعين أكثر حالياً إلى التأثير المحتمل الذي قد تتركه أسعار النفط المنخفضة. وبهذا، هم أكثر قابلية لفهم التدابير التي اعتمدتها حكوماتهم.
ومن أجل التخفيف من تأثير إصلاح الدعم على الطبقتين الفقيرة والمتوسطة، تخطط المملكة العربية السعودية لتوسيع مخصصات الرعاية. ستعمل هذه المدفوعات على المدى القصير، إنما على المدى الطويل سيتجلى أحد أهم التحديات في زيادة مشاركة رعايا دول مجلس التعاون الخليجي في القطاع العام، بعيداً عن الوظائف الحكومية. ومع إعادة التوجيه هذه، يمكن لحكومات مجلس التعاون الخليجي أن تعزز قطاعاً عاماً أصغر حجماً وأكثر فعالية.
تُعتبر هذه التدابير أساسية بشكلٍ خاص بالنسبة للمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، اللتين تضمان النسبة الأكبر من سكان دول مجلس التعاون الخليجي (30 مليون نسمة و10,5 مليون نسمة). ومن ضمن هؤلاء السكان، 30 بالمئة من السكان السعوديين هم عمال أجانب، في حين أن نسبة الأجانب الذين يعيشون في الإمارات العربية المتحدة تُقدر بأكثر من 90 بالمئة. تبذل الدولتان جهوداً لزيادة العنصر السعودي والإماراتي، والتي بموجبها سيُستبدل العمال الأجانب في القطاع الخاص بمواطنين سعوديين وإماراتيين. لم تسفر هذه التدابير القائمة عن النتائج المتوقعة، لا سيما وأن الأرقام الأخيرة أظهرت تدهوراً من عام لعام في نسبة توظيف السعوديين في القطاع الخاص بنسبة 38 بالمئة.
تبقى المملكة العربية السعودية ضمن ما يُشار إليه بـ”جمود معادلة العمل 90/90?: توظف الحكومة نحو 90 بالمئة من السعوديين، في حين أن الأجانب يشغلون 90 بالمئة من وظائف القطاع الخاص. تشير دراسة أجراها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في العام 2014 إلى أن معدل زيادة العنصر السعودي زاد من التوظيف المحلي، في حين أثر سلباً على الشركات العاملة في المملكة العربية السعودية وسبب بخروج 11 ألف شركة من السوق. بالإضافة إلى ذلك، أضاف عدد من الشركات مواطنين سعوديين إلى جداول التوظيف لتتوافق مع الحصص الحكومية، إلا أن هؤلاء لا يعملون فعلياً. أقرّ وزير العمل السعودي مؤخراً أن الجهود الظاهرية لزيادة العنصر السعودي تبقى من دون جدوى وتؤثر سلباً على الشركات.
بالإضافة إلى توطين التوظيف، فقد حاولت دول مجلس التعاون الخليجي أيضاً أن تنوع اقتصادها ليتخطى قطاعات الهيدروكربون التي تسيطر حالياً على الاقتصاد. تقدمت جهود التنويع بوتيرة مختلفة في كلّ دولة من دول مجلس التعاون الخليجي. يمكن القول إنّ الإمارات العربية المتحدة (ولا سيما دبي) قد أثبتت أنها الأكثر نجاحاً في هذا الصدد. تواصل المملكة العربية السعودية جهود التنويع، ولكن بشكلٍ عام، ما زال اقتصادها يعتمد على الهيدروكربون بشكل كبير. ومن العوامل التي ساعدت الإمارات العربية المتحدة على النجاح هو انفتاحها على السياحة أكثر من المملكة العربية السعودية، وأنها وضعت دبي كمركز عبور (مع مرور 69 مليون مسافر سنوياً عبر دبي وحدها). إن النجاح الطويل الأمد للتنويع الاقتصادي في دول مجلس التعاون الخليجي سيعتمد على وضع وتطبيق سياسات تركز على إنشاء حوافز اقتصادية للشركات لتتخطى الهيدروكربونات، وكذلك لمواطني دول مجلس التعاون الخليجي ليسعوا للحصول على وظيفة خارج القطاع العام.
منطقة صعبة
بالإضافة إلى التحديات المحلية، للأزمات الإقليمية تأثيرٌ على التوازنات المالية لدول مجلس التعاون الخليجي. بالإضافة إلى الحرب في اليمن، أشارت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة مؤخراً أنهما ترغبان أيضاً بإرسال قوات عسكرية برية إلى سوريا، علماً أن المملكة العربية السعودية قد أرسلت قواتٍ وطائرات حربية إلى تركيا. من شأن التوصل إلى حل سياسي في سوريا أن يمهّد الطريق لتخفيف التوترات بين الخصمين الإقليميين (المملكة العربية السعودية وإيران) في كلّ من سوريا واليمن. ولكن يبقى الانتظار إلى ما ستفضي إليه المفاوضات السورية من نتائج في العام 2016.
في بيئة تتميز بأسعار نفط منخفضة، تجد المملكة العربية السعودية وإيران نفسهما تواجهان تحديات مالية مشابهة بعض الشيء، الأمر الذي قد يعزز آفاق الحوار. لا شكّ في أنّ الكلام أسهل من الفعل، لا سيما وأن داعش وتطلعات الأكراد بالحصول على الاستقلال وموقف بشار الأسد كلها تقف في طريق التوصل إلى نهاية الحرب الأهلية في سوريا. ولقول ما هو واضح، لا يعتمد الاستقرار والازدهار الطويل الأمد في المنطقة على تطبيق إصلاحات اقتصادية فحسب، بل أيضاً على تخفيف حدة الصراعات الإقليمية.
المصدر: بروكينغز