مالك عوني
ارتبطت سيرورة ما عرف بـ«الربيع العربي»، خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، بازدياد حضور سيناريو التفكك/الانهيار في العمليات التحليلية، والطروحات أو الهواجس السياسية المتعلقة بمستقبل «الدولة العربية». ومع الإقرار بأن هذا السيناريو/التهديد لم يكن أبداً غائباً عن أفق الدولة العربية على أي من مستويي الواقع أو التحليل، فإن المقصود هنا هو أن حجم هذا الحضور وجسامته ازدادا بشكل غير مسبوق، منذ تفجر الاحتجاجات الشعبية العربية ذات النزعة الثورية منذ نهاية عام 2010 . هذا الازدياد يرتبط بمجموعتين أساسيتين من العوامل. المجموعة الأولي ذات طبيعة هيكلية تتعلق بما يمكن تسميته «عوامل فشل مشروع بناء الدولة القومية» في مرحلة ما بعد الاستقلال الوطني. أما المجموعة الثانية، فتتعلق بمتغيرات داخلية وخارجية أفرزتها ثورات الربيع، أو كشفت عنها. وفي الواقع، فقد حمل مشروع بناء «دولة/أمة» في العالم العربي بذور انهياره داخله منذ لحظة ولادته الأولي في العصر الحديث. وباستثناء الحالة المصرية التاريخية، فإن هذا المفهوم برز في العالم العربي بداية على المستوى الفكري كرد فعل لنموذج الاضطهاد العثماني، وتحديدا في بلاد الشام، إلا أنه لم يجد ترجمته السياسية الواقعية إلا في منتصف القرن العشرين مع موجة التحرر الوطني التي دامت ما يزيد على ربع قرن كامل. حددت دولة الاستقلال غاية بناء دولة وطنية حديثة كإحدى أولوياتها العليا، إلا أن خبرة ما يزيد على ستين عاماً أثبتت عجزاً حقيقياً عن صياغة مفهوم جامع لـ «الوطنية». كرست خبرة الدولة العربية، بدلاً من آليات الدمج المجتمعي والسياسي، واقع الإقصاء كسمة أساسية لهذه الدولة ذات الطبيعة شديدة المركزية مع تباين خطوط الإقصاء (إثنية، أو سياسية/أيديولوجية، أو طبقية) بين دولة وأخرى، وبين مرحلة وأخرى في الدولة ذاتها.
هذه الدولة الإقصائية المأزومة انتقلت إلى طور آخر مع بروز أبنية النظام المعولم وأطره الحاكمه، وقواه المحركة، منذ تسعينات القرن العشرين، حيث سعي أغلب الدول العربية، مع اختلاف مكناتها وقدراتها، إلى الانخراط في هذا النظام لينشأ ما يمكن تسميته «الدولة الوكيل» (Agent State)، التي عملت على تأطير علاقة هذا النظام المعولم مع الواقع العربي المأزوم داخلياً. حمل هذا الطور الجديد مشكلات إضافية إلى الدولة العربية، أبرز اثنتين منها، في إطار هذا التحليل لسيرورة التفكك/الانهيار، أولاهما: عدم عدالة توزيع عوائد التنمية المرتبطة بهذا الانخراط بنظام العولمة، مما فاقم من عبء السياسات الإقصائية على المستوى المجتمعي.
ثانيتهما: تخلي الدولة العربية عن إحدى وظائفها الرئيسة المتمثلة في الانفراد بتحديد نسق المصالح الوطنية، وسبل تحقيقها لمصلحة أنساق واردة بشكل رئيس من المركز المعولم.
ومع الإقرار بأن تمييزا قد يلوح من التحليل السابق بوجود طورين، مركزي ومعولم، لا يعكس بالضرورة انفصالاً تاماً بين الخصائص المكونة لكليهما، إلا أنه لا يمكن أيضاً إغفال وجوده، حيث عكس كل من الطورين المشار إليهما ترتيباً مختلفاً للخصائص الأكثر تأثيرا في طبيعة الدولة. هذه المشكلات والخصائص الهيكلية لدولة ما بعد الاستقلال في طوريها، المركزي والمعولم، انعكست بشكل رئيسي في أزمة شرعية حادة عانتها الدولة العربية بشكل عام.
دلالات «ثورات»
الربيع وأفقها المراوغ:
بعد ثلاث سنوات مما اصطلح إعلامياً على تسميته بـ«ثورات الربيع العربي»، يمكن لنا أن نفترض -بدرجة عالية من الثقة- أن موجة الاحتجاجات العربية جاءت تعبيرا عن رفض شعبي واسع لما آلت إليه تجربة دولة ما بعد الاستقلال العربية، لكنها في الوقت ذاته لم تحمل معها أفقاً واضحاً لطبيعة وماهية التغيير المبتغى لتجاوز أزمة هذه الدولة. بل إن خبرة السنوات الثلاث تكشف بجلاء عن أن أزمة «الدولة العربية» تجد لها جذوراً أكثر عمقاً في «البناء السياسي العربي» الأوسع نطاقا من مفهوم الممارسة الدولاتية للسياسة. خصائص الإقصاء، وتغييب قيمة العدالة، فضلا عن ركائز المواطنة الحقة، والحريات الأساسية، كرستها بدرجات متفاوتة القوى التي حاولت صياغة أنظمة جديدة في دول «الربيع العربي»، بينما لم يمكن للدول الأخرى التي لم تشهد ظاهرة «الربيع» أن تلتحق بها، بالرغم من كل إجراءاتها الإصلاحية، التحاقاً تاماً يعكس تحولاً حقيقياً في الطبيعة الإقصائية لـ«الدولة العربية».
بعبارة أخرى، وباستعارة نموذج التحدي والاستجابة الذي طوره أرنولد توينبي لتفسير انهيار الحضارات، يمكن أيضاً افتراض أن حالة فشل عربي في الاستجابة للأزمة المتكررة التي أنتجت «ثورات الربيع» تطرح أفقاً مغايراً الآن للأفق الذي تصوره هؤلاء الشباب الذين خرجوا آملين في أن يعيدوا صياغة دولهم، ولما استشرفته العديد من التحليلات، والرؤى، والمواقف السياسية التي احتفت بتلك الثورات. هذا الفشل يمثل، وفقاً لمنهج توينبي، سيرورة باتجاه فناء الكيان السياسي الذي يعجز عن تقديم حلول إبداعية لأزماته الهيكلية الراسخة. وبالتالي، يمكن فهم ما آلت إليه سيرورة التفكك/الانهيار في الحالة العربية الراهنة.
لكن السياق المرتبط بهذا السيناريو/التهديد لم يعد بدوره هو ذاته، الذي أفرز ظاهرة «ثورات الربيع». فهذه الاحتجاجات الشعبية بدورها كانت لها تداعياتها على مستوى معطيات السياسة الداخلية، وعلى ما استتبعته من ردود أفعال القوى الإقليمية والدولية ومواقفها. ولعل الأبرز على مستوى السياسة الداخلية هو تدفق غير منضبط لقوى محلية كانت مهمشة بدرجة كبيرة وتفتقر، خاصة قوى الإسلام السياسي منها، لخبرات الممارسة الديمقراطية، فضلاً عن قيمها. هذا التدفق وما ارتبط به من تصاعد في حجم المطالب الداخلة إلى النظام السياسي فاقم من احتمالية الصراع، في ظل بناء سلطوي أعاد إنتاج قدر كبير من سماته الإقصائية البنيوية والقيمية، خاصة مع صعود قوى الإسلام السياسي إلى سدة الحكم في مصر وتونس، وقبلهما العراق، وهيمنته على محاولات التغيير في سوريا.
أما على المستوى الخارجي، فقد برزت محاولات احتواء قوية من قبل العديد من القوى الدولية والإقليمية لما يمكن أن تؤول إليه ثورات الربيع. هذا الاحتواء استهدف بشكل أساسي الحفاظ على أبنية وهياكل النظام المعولم بعيداً عن أية مطالب بمراجعة جوهرية كان يمكن أن تفرضها متطلبات تغيير ديمقراطي في العالم العربي، على غرار ما سبق طرحه من خلال تجارب التغيير الثوري في أمريكا اللاتينية.
الخلاصة من كل العوامل السابقة أن العوامل المؤسسة للدولة العربية المأزومة لم تتم الاستجابة لها بشكل إيجابي وفعال، بل إن بعضها تمت إعادة إنتاجه، بما ينبئ عن أن أزمة الدولة العربية يرجح لها أن تشهد مزيداً من التداعيات في المرحلة المقبلة، لعل أبرزها ازدياد احتمالية تحقق سيناريو «التفكك/الانهيار».
حالة ما قبل الاستقلال:
لا يعني التحليل السابق، بأي حال من الأحوال، ترجيح احتمال التفكك/الانهيار، بقدر ما يعني أن تلك الدولة المأزومة تفاقم ديناميات التفكك/الانهيار. لكن في الوقت نفسه، لا يمكن لأي تحليل واقعي إنكار بروز ديناميات مقابلة لا ترسخ الوحدة بقدر ما تقاوم سيناريو «التفكك/الانهيار». برزت هذه الديناميات بشكل جلي في حالات ليبيا، وسوريا، واليمن، وقبلها في الحالة العراقية. في تلك الحالات جميعا، كان خيار التفكك/الانهيار -ولايزال- مطروحاً بشكل قوي، لكنه لم يجد سبيله إلى التحقق. الديناميات المقاومة، بدورها، تعكس تداخلاً جلياً بين مجموعة من عوامل التماسك المجتمعي الداخلية، وقيود خشية وتوازن دولية وإقليمية. ويبدو أن هذه الديناميات، في ظل السياقات الحالية لهذه الحالات، لا تزال هي الأكثر فاعلية، فيما فشلت في حالات أخرى، سواء في السودان، أو في الأراضي الفلسطينية، فضلاً عن أن مستويات عمل هذه الديناميات وفاعليتها تختلف من حالة إلى أخرى. فبينما نشهد تماسكا أكبر في اليمن، نلاحظ أن مستويات أعلى من انهيار السلطة يمكن تبينها في كل من سوريا، وليبيا، والعراق.
وإجمالا، يمكن القول إنه يمكن التمييز بوضوح بين مستويين هما التفكك والانهيار. ونقصد هنا بالمستوى الأول، التفكك، انحلال الوحدة الإقليمية للدولة، سواء لتنشأ محلها دول عدة (على غرار ما شهدته دولة السودان)، أو مناطق تفتقر لوجود أي بناء سلطوي (مثل الحالة الصومالية). أما المستوى الآخر، الانهيار، فنعني به هنا تحلل السلطة وفشلها، بحيث تغيب بدرجة ما عن مناطق معينة من الدولة دون اشتراط تفككها بالضرورة، وهو ما نشهد ملامحه بشكل جلي في سوريا وليبيا، بل وما حاولت بعض القوى ترسيخه في شبه جزيرة سيناء المصرية. هذا الانهيار ليس سيناريو جديداً بالكامل، بقدر ما يعبر عن تفاقم حالة فشل الدولة التي عاناها العديد من الدول العربية منذ سنوات عديدة، حيث تغيب سلطة الدولة عن مناطق بعينها من إقليمها.
الملاحظ أن مطالب القوى المعززة لسيناريو التفكك/الانهيار تتماهى مع خطوط الانقسامات الإثنية التي كانت سائدة في مرحلة ما قبل دولة الاستقلال. وفي هذا السياق، يحاول العدد الحالي من ملحق «تحولات استراتيجية» تقديم رؤية استشرافية حول سيناريوهات التفكك/الانهيار، مقابل الديناميات المقاومة لها في عدد من الدول العربية التي شهدت صراعات ذات طبيعة تهدد كيان الدولة ووجودها، وارتفعت فيها مطالب ذات طبيعة انفصالية أو تفكيكية لبناء السلطة التقليدي فيها. واستهدف التحليل الذي انبنت عليه أوراق هذا الملحق بيان العوامل التي قد ترجح احتمالات التفكك/الانهيار، أو تقيده.
في هذا الإطار، انصرف التحليل إلى محاولة الإجابة على التساؤلات الأربعة التالية في كل حالة من حالات الدراسة الأربع:
1- أسباب بروز سيناريو التفكك/الانهيار في إطار مقاربة سؤال «الدولة/الأمة» في ظل مرحلة ما بعد الاستقلال.
2- أبرز مناطق ومظاهر التفكك/الانهيار التي برزت والمحتملة في كل حالة.
3- مقاربة العوامل المختلفة لتحفيز التفكك/الانهيار أو تقييده، مثل التركيبة السكانية، والخلافات الإثنية، والموارد، والتدخلات الخارجية. وفي هذا الإطار، يمكن ملاحظة أن الكثير من هذه العوامل يمكن أن يدفع باتجاه سيناريو «التفكك/الانهيار»، أو يقاومه. واستلزم ذلك البحث في الشروط المحددة لتأثير كل من هذه العوامل، وكذا للوزن النسبي لكل منها، مقارنة بالعوامل الأخرى، وصولاً إلى توقع نتاج التفاعل بينها جميعا في رسم سيناريوهات المستقبل.
4- عرض أبرز التداعيات المحتملة لسيناريوهات التفكك/الانهيار على المحيط الإقليمي.
في هذا الإطار، وقع الاختيار على أربع حالات هي سوريا، وليبيا، والدولة الخليجية، إضافة إلى العراق. هذه الحالات الأربع لا تعكس سيناريوهات «التفكك/الانهيار» فيها -أو ديناميات مقاومتها- استجابة مباشرة بالضرورة لـ«ثورات الربيع»، ولكن هذه الثورات أثرت فيها جميعاً، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، من جهة، كما أن هاتين الحالتين اللتين لا تعدان نتاجاً مباشراً لـ«ثورات الربيع»، وهما العراق والدولة الخليجية، تتيحان فضاء مقارناً مناسباً لقياس احتمالات تطور التفاعل بين ديناميات التفكك والوحدة، وحدود تأثيرات السياق في هذا التفاعل ونتائجه.
وأخيراً، فقد كانت هناك محاولة لإعداد ورقة تتناول النماذج المحتملة للدولة العربية، في ظل تفاقم أزمتها الراهنة، وتصاعد تحديات تفككها، أو انهيار سلطتها. وتحاول هذه الورقة الأخيرة استشراف مدى إمكانية تقديم استجابة مبدعة لأزمة الدولة العربية، أو مدى احتمالية سلوك تلك الأزمة مساراً مرجحاً لسيناريو «التفكك/الانهيار». ولعل أفضل ما يمكن الإجابة به على هذا السؤال هو تحديد شروط تقديم هذه الاستجابة المبدعة، أو شروط العجز عن تقديمها.
وفي النهاية، لا يمكن إنكار أن البحث بشكل معمق في هذا التساؤل المحوري، بشأن مستقبل الدولة العربية، هو جزء لا يمكن أن ينفصل عن البحث في مآلات النظام الدولي، وأنساقه الحاكمة، وطبيعة المصالح المتصارعة في إطاره. إن هناك حالة مراجعة كبيرة تجري حاليا في إطار الدولة العربية، وهي حالة جرت محاولات جدية لاحتوائها، حتى اللحظة. لكن المؤكد أيضاً أن حالة المراجعة تلك من القوة بمكان لتستمر في التفاعل والبحث عن سبيل للحضور وجودياً في عالم اليوم. وربما تعد الموجة الثورية، التي شهدتها مصر في 30 يونيو 2013، محاولة للحفاظ على حيوية عملية المراجعة الثورية تلك، بعد أن شهدت تجربة حكم الإسلام السياسي محاولة لإعادة إنتاج الاستبداد وعلاقات التبعية في ثوب مقدس. لكن تلك الموجة الثورية لا يمكن الزعم كذلك بأنها انتهت إلى إجابة مبدعة، فضلا عن أن تكون قابلة لبناء نموذج إقليمي لحل أزمة الدولة العربية.
ولعل ما حدث بالفعل هو فتح المجال واسعاً وحراً لتفاعل جديد، بحثاً عن مثل هذا السبيل. لكن كشفت تلك الموجة الثورية بشكل جلي عن عمق تأثير عمليات المراجعة الجارية في العالم العربي في هيكل المصالح الدولية، والنظام الذي يحتويها. وبالتالي، فإننا نتوقع أن تشهد الفترة المقبلة، على الرغم من أي افتراضات بشأن مساعٍ من قبل القوى العظمي حالياً، الولايات المتحدة، للخروج من منطقة الشرق الأوسط، أو خفض درجة الانخراط فيها، «لعبة أمم» كبيرة في المنطقة، ستحدد بدورها مآلات الدولة العربية ومصيرها.
لذلك نظن أن البحث في مصير الشرق الأوسط وتحولاته، خلال المرحلة المقبلة، إنما يقتضي جهداً بحثياً معمقاً وتكاملياً، يتناول مختلف مظاهر السلطة وأسسها في هذه المنطقة، التي تعد بحق إحدى ركائز التحول الكبرى في العالم، عبر التاريخ وحتى اليوم.
المصدر: السياسة الدولية