بقلم - د. محمد السيد:


مقدمة:
سباق الرئاسة الأمريكية مفتوح على كل الاحتمالات حتى اللحظة الأخيرة.
هذه مجموعة مقالات تحمل آراء وتحليلات عن سباق الرئاسة الأمريكية للعام 2016.
وجاءت هذه المقالات توثيقاً ليوميات هذه المنافسة الانتخابية الساخنة بين هيلاري كلينتون ودونالد ترامب على منصب الرئاسة الأمريكية.
وتؤرخ هذه المقالات للشوط الأخير من هذه المنافسة.
هذا الشوط الذي بدأ بعد انتخاب المرشحين هيلاري كلينتون ودونالد ترامب في مؤتمري الحزبين الجمهوري والديمقراطي -في يوليو وأغسطس تباعاً- والذي يستمر حتى يوم الانتخابات الرئاسية في الثامن من نوفمبر.
ومرت هذه المنافسة الانتخابية بعدة محطات مهمة كان لها أثرها الواضح على مسارات الرأي العام الأمريكي.
وكانت أولى هذه المحطات تتمحور حول مؤتمري الحزبين المتنافسين الجمهوري والديمقراطي لانتخاب مرشحيهم لمنصب الرئاسة. وقد انعكس ترشيح ترامب ممثلاً للجمهوريين في سباق الرئاسة على استطلاعات الرأي العام بعد المؤتمر مباشرة وأعطت تفوقاً واضحاً «وإن لم يكن كبيراً» لترامب على كلينتون وذلك على أعتاب شهر أغسطس. ولكن الأمر انعكس تماماً بعد مؤتمر الديمقراطيين والذي اختار كلينتون مرشحاً للرئاسة. إذ إن كلينتون اكتسبت زخماً كبيراً دفع بها في منتصف أغسطس إلى تجاوز ترامب بنسبة كبيرة بلغت 12 نقطة.
أما المحطة الثانية، فقد كانت تراجع نسب تفوق كلينتون على ترامب وتقلص الفارق بينهما، حتى وصل نقطة واحدة أو نقطتين، في منتصف سبتمبر.
وأرجع المراقبون ذلك لتردي الحالة الصحية لكلينتون مما أدى لتزايد الشكوك حول قدراتها الجسدية للقيام بمتطلبات منصب الرئاسة الأمريكية.
أما المحطة الثالثة فقد كانت حول المناظرة الأولى بين كلينتون وترامب التي تمت في الثالث والعشرين من سبتمبر. وأتاحت المناظرة فرصة كبيرة للجمهور الأمريكي أن يرى المتنافسين وجهاً لوجه ويحكم بصورة مباشرة عليهما.
وقد جاء الحكم سريعاً. تفوقت كلينتون في المناظرة الأولى ورفعت الفارق بينها وترامب إلى أكثر من خمس نقاط.
وكانت المحطة الرابعة هي ما أجمع المراقبون على تسميته بـ«مفاجأة أكتوبر». وقد حدثت هذه المفاجأة أوائل أكتوبر حين عرض شريط فيديو يسمع فيه دونالد ترامب يتلفظ بعبارات بالغة الفحش وروايته لمواقف خادشة للحياء ومهينة أثناء تعامله مع عدد من النساء.
وأدى ظهور هذا الشريط إلى نقمة واسعة بين النساء وكثير من الرجال على ترامب. وانعكس ذلك على استطلاعات الرأي إذ تزايد تفوق كلينتون على ترامب حتى وصل إلى 12 نقطة في بعض الاستطلاعات.
وأتت بعد ذلك المناظرتان الثانية والثالثة واستمرت كلينتون في تفوقها الواضح على ترامب.
أما المحطة الخامسة فقد حدثت يوم الجمعة الثامن والعشرين من أكتوبر وقبل أحد عشر يوماً فقط من الانتخابات الرئاسية، وذلك حين قرر مدير مكتب التحقيقات الفيدرالية - الإف بى أي - جيمس كومي الاستمرار في التحقيقات حول احتمال ارتكاب هيلارى كلنتون مخالفات قانونية فى تعاملها من خلال الإيميل مع معلومات صنفت على أنها سرية أثناء عملها كوزيرة للخارجية إبان إدارة أوباما الأولى.
وكان كومي قبل ذلك، قد برأ ساحة كلينتون في ذات التحقيق الذي استمر أكثر من عام.
ويجمع كثير من المراقبين على أن هذه المحطة قد تكون مفاجأة أكتوبر الثانية ولكنها هذه المرة قد تؤثر على فرص هيلاري كلينتون بالفوز. ذلك أن هذا الموضوع قد صار الأهم تناولاً من وسائل الإعلام الأمريكية. وكما ثبت في الماضي بهذه الحملة الانتخابية، أن المرشح الأكثر تناولاً في وسائل الإعلام يكون هو أو هي الأكثر عرضة للتراجع في استطلاعات الرأي العام.
وبهذا المعنى فإن هذا التطور الأخير قد يصبح خصماً على فرص كلينتون في الفوز بالرئاسة الأمريكية.
ونسبة لقرب هذا التطور الأخير من موعد الانتخابات فإنه من الصعوبة معرفة أثره على استطلاعات الرأي بدقة الآن.
وعليه فإن على المراقبين متابعة استطلاعات الرأي العام حتى اللحظة الأخيرة، ذلك أن السباق أصبح مفتوحاً على كل الاحتمالات بالرغم من أن كلينتون مازالت متقدمة على ترامب بحوالي خمس نقاط.
** ظاهرة ترامب الإعلامية
الجمعة 23 سبتمبر
مقدمة:
أقتربت الانتخابات الرئاسة الأمريكية، التى ستتم فى الثامن من نوفمبر 2016.. نحاول اليوم الإجابة على سؤال مهم يتعلق بالانتخابات الرئاسية الأمريكية هذه المرة. والسؤال هو: لماذا صعد نجم دونالد ترامب وازدادت شعبيته بهذه السرعة الصاروخية مرشحاً قوياً ورئيساً محتملاً للولايات المتحدة الأمريكية وهو الأبعد شخصية والأقل تأهيلاً عن النجاح فى إدارة بلد يعتبر الأول فى العالم من حيث القوة الاقتصادية والعسكرية والنفوذ السياسي والدبلوماسي؟
هناك عوامل متداخلة تقف وراء ظاهرة الصعود المضطرد لدونالد ترامب.
وسأحاول اليوم أن أركز على أحد هذه العوامل لعلاقته بالتخصص الذى اشتغل عليه. أقصد مجال الإعلام والاتصال خاصة ما يعرف بالصحافة الإذاعية والتلفزيونية Broadcast Journalism. «وقد اعتمدت بدرجة كبيرة فى الإجابة على هذا السؤال على معلومات قيمة وردت في فيلم وثائقي عرض في البرنامج المتخصص في النقد الإعلامى «ذا ليسيننق بوست».
* الحملات الانتخابية والتغطية الإعلامية
كما هي العادة، تبدأ حملات الناخبين قبل قرابة العامين من اليوم الحقيقي للتصويت «الثامن من نوفمبر هذا العام» وتسمى المرحلة الأولى فيها بالانتخابات التمهيدية أو الأولية primary elections. وفيها يتم التنافس بين المترشحين داخل كل حزب، وتنتهي هذه الفترة بانتخاب كل حزب لمترشح واحد، يمثله في الانتخابات العامة national elections .
وبحسب تقرير تيندال The Tyndall Report فقد حاز دونالد ترامب، على أكثر من ربع التغطية التلفزيونية، من بين أكثر من 25 مترشحاً فى الانتخابات التمهيدية «17 مترشحاً جمهورياً و6 ديمقراطيين واثنان على الأقل يمثلان أحزاباً أخرى» وذلك فى الفترة من يناير إلى نوفمبر 2015. وقد تجاوزت نسبة التغطية التلفزيونية لترامب وحده، مجموع التغطية لجميع مترشحي الحزب الديمقراطى.
وانعكس ذلك على الأرباح التي جنتها القنوات التلفزيونية من ارتفاع نسب المشاهدة للإعلانات أثناء التغطية التلفزيونية لترامب والتي بلغت 1.8 بليون دولار.
ولعل هذا مادفع رئيس قناة CBS «وهى القناة الأكثر احتراماً على مدى تاريخ الأخبار التلفزيونية فى القنوات الأمريكية التجارية» للقول «هذا الأمر «الأرباح العالية التى تحققها القنوات التلفزيونية من التغطية الكثيفة لترامب» قد لا يكون فى مصلحة أمريكا كبلد، ولكنه قطعاً فى مصلحة قناتنا CBS».
وقال السيد مونفز واصفاً حملة الانتخابات الأمريكية الحالية بأنها مثل «السيرك المتجول»، وأشار إلى أن «المال يتدفق علينا منهمرا وهذا أمر مفرح»، ثم أضاف «اننى لم أرى من قبل أمراً يماثل هذا، وهذه ستكون سنة مربحة لنا. أنا آسف، ولكنى أقول لترامب استمر فى حملتك وأجلب لنا المزيد من المشاهدين والأرباح».
كيف نفسر هذا؟
للإجابة على هذا السؤال المهم نحتاج إلى أن نتعرف على جزء من تاريخ الإعلام الأمريكى وهيكليته.
وهنا تحديداً نقصد الإعلام الإذاعى والتلفزيون.
* الدستور الأمريكى وحرية الإعلام:
التعديل الأول للدستور الأمريكى يحمل أهم مادة فى الترسانة القانونية التى تشكل القيم السياسية في تاريخ وحاضر المجتمع الأمريكى والدولة الأمريكية.
ومن أهمها حرية التدين وحرية التعبير وحرية الصحافة.
وينص على:
Congress shall make no law respecting an establishment of religion, or prohibiting the free exercise thereof; or abridging the freedom of speech, or of the press; or the right of the people peaceably to assemble, and to petition the Government for a redress of grievances.
وهذا التعديل يمنع الكونغرس والحكومة من التشريع لتأسيس دين خاص بالدولة كما يمنع من إصدار أي تشريعات أو قوانين تحجر حرية ممارسة الأديان أو تمنع حرية الرأي والقول والتعبير أو تمنع حرية الصحافة أو التجمع السلمي أو تمنع المواطنين حقهم في المطالبة السلمية برد المظالم.
ومن المعلوم أنه وطبقاً لهذا التعديل لم تقم فى تاريخ الولايات المتحدة أو حاضرها أية وزارة للإعلام.
ولكن انشئت لجنة فيدرالية «لجميع الولايات» تنظم الاتصال - خاصة الاتصال المرئي «التلفزيون» والمسموع «الإذاعة» - ولا سلطان لها إطلاقاً على الصحافة المطبوعة «الصحف والمجلات» وتسمى اللجنة الفيدرالية للاتصالFederal Communication Commission(FCC)، وقد قامت هذه اللجنة فى عام 1949 بتبنى «مبدأ العدالة والتوازن والمساواة» The Fairness Doctrine والذى يلزم المحطات الإذاعية والتلفزيونية بإعطاء فرص متساوية لوجهات النظر المختلفة.
وأصدرت قانوناً أو بصورة أدق أصدرت Act «توجيها ملزماً- ذلك أن الكونغرس وحده من يحق له إصدار التشريعات» حيث يمنع ويحد من الملكية المتنوعة لوسائل الإعلام فى السوق الواحد. وذلك محاربة لاحتكار وسائل الإعلام، الذى قد يقود إلى السيطرة على توجهات الرأى العام من قبل الملاك المحتكرين لوسائل الإعلام المختلفة.
وتم في عام 1987- إبان فترة حكم الرئيس الجمهورى المحافظ رونالد ريغان، الغاء مبدأ العدالة والمساواة، الذى كان يلزم وسائل الإعلام المرئية والمسموعة بإتاحة الفرصة لوجهات النظر المختلفة أن تمثل بالتساوي فى البرامج السياسية والاجتماعية الإخبارية. إضافة لذلك، تم إلغاء الاشتراطات الأخرى على محطات الإذاعة والتلفزة بتقديم برامج تثقيفية وتعليمية وبرامج تخدم قضايا الفئات المختلفة فى المجتمع. وقد كان تجديد رخص هذه القنوات يعتمد كليا على التزامها بهذه الشروط التى تهدف إلى خدمة المجتمع. وكان يتم فحص محتويات هذه القنوات سنوياً للتأكد من التزامها بهذه الشروط.
واستمر ذلك حتى تم الغاء هذه الشروط إبان عهد ريغان.
وأدى ذلك إلى ظهور قنوات تلفزيونية ومحطات إذاعية تمثل التيارات المحافظة والجمهورية وتشتط في تحيزها لوجهات النظر التي تهاجم الهجرة والمهاجرين وتهاجم البرامج الحكومية لمساعدة الفقراء والفئات المهمشة والضعيفة في المجتمع.
وظهر هذا فيما يعرف بالمحطات الإذاعية التى تحتوي برامج حوارية أو توك شو radio talk shows، وقد ضربت هذه المحطات والقنوات بمبدأ العدالة والتوازن والمساواة The Fairness Doctrine عرض الحائط. وصارت بوقا دعائيا للمواقف العدائية ضد حركة تحرر المرأة the feminist movement وضد المطالبين بالحقوق المدنية وسط الأقليات وضد الإسلام الذى بدأت تطلق عليه عبر مذيعيها ومستشاريها صفة «الإسلامية الفاشية» Islamic Fachism وعدائها الشرس للتيار الليبرالي.
ومن بين هؤلاء، مقدم البرامج الحوارية أو «التوك شوز» أمثال رش ليمبو «الذى يستمع إليه 20 مليون شخص يومياً» وقناة فوكس Fox TV التي يملكها الملياردير المحافظ روبرت مردوخ.
ونقطة التحول الثانية في تاريخ الراديو والتلفزيون، تمت عام 1996 إبان حكم الرئيس بيل كلينتون، وحينها ألغت الـ FCC القانون الذي يمنع احتكار ملكية عدة وسائل إعلامية في ذات السوق الإعلامي.
تم ذلك أثناء التوجه الاقتصادى الليبرالى الجديد Neoliberalism بقصد تقليص إشراف الدولة والتخلص من القوانين التي كانت تنظم النشاط الاقتصادى الخاص وذلك عبر ماعرف بسياسة الـ deregulation.
وكما كان متوقعاً أدى إلغاء القوانين التي تنظم ملكية وسائل الإعلام إلى درجات عالية من الاحتكار.
ففى عام 1983 كان هناك 50 شركة تملك ما يقارب 90% من وسائل الإعلام.
فى عام 2010 صارت 6 شركات فقط تملك أكثر من 90% من وسائل الإعلام فى الولايات المتحدة.
إلغاء مبدأ العدالة والتوازن والمساواة الذى كان يلزم وسائل الإعلام بإتاحة فرص متساوية للتيارات السياسية ووجهات النظر المختلفة أدى إلى صعود خطير وغير متوازن للخطاب الإعلامى لليمين المحافظ والذى تحول في بعض الأحيان إلى يمين متطرف.
كما ان إلغاء ضوابط ملكية وسائل الإعلام سارع في توسيع ظاهرة الاحتكار، التي قادت بدورها إلى تضخم تأثير الخطاب الإعلامي المحافظ على المجتمع.
بالإضافة لهذين التحولين المهمين، أدى ضعف الإذاعة والتلفزة العامة الأمريكية US Public Broadcast مقارنة بالمحطات والقنوات التجارية التي تتسيد المشهد الإعلامي في الولايات المتحدة «وذلك خلافاً لبريطانيا التي تتسيد فيها الـBBC وNHK في اليابان وCBC في كندا وكلها قنوات إعلامية عامة» - أدى لتحول الخطاب الاعلامي الأمريكي السائد إلى سلعة يحكمها حصرياً منطق الربح المادي الذي يرتكز على نسبة المشاهدية Audience Ratings.
وعليه وفي مثل هذا السياق التاريخي والهيكلي، يمكننا أن نفهم حديث رئيس شبكة CBS ليزلي مونفز، الذي اعترف بأن ظاهرة ترامب، بالرغم من أنها قد تكون ضارة بالولايات المتحدة كبلد، إلا أنها تمثل بقرة حلوب لوسائل الإعلام التجارية.
مما يفسر إعطائها لدونالد ترامب القدر الخرافي من التغطية الإعلامية.
وحتى لا يبقى هناك أدنى شك في دوافع الإعلام التجاري الأمريكي في إعطاء دونالد ترامب هذا القدر الهائل من الاهتمام والتغطية المكثفة أذكركم بكلمات رئيس قناة CBS ليزلي مونفز «الأرباح العالية التي تحققها القنوات التلفزيونية من التغطية الكثيفة لترامب قد لا تكون في مصلحة أمريكا، ولكنها قطعاً فى مصلحة قناة CBS».
* تسجيل يومي يتابع تطورات حملة الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأمريكية يتناول فيه الدكتور محمد السيد الأستاذ المساعد بقسم الإعلام بجامعة البحرين التطورات اليومية المتلاحقة التي تتعلق بالسباق الانتخابي.