يمر ائتلاف الوفاق الآن بأصعب مراحله وأكثرها حرجاً، مرحلته الصعبة تشبه -لكنها تفوق- ما مرت به الوفاق حين انفصل تيار الأفندية الأول نزار البحارنة والزيرة ومجيد العلوي عنهم، أو حين انفصل عنهم مشيمع وعبدالوهاب والسنكيس في عام 2005.
إذ يعاني الائتلاف اليوم من صراع حول دور العمامة المعيق للحراك السياسي بكلا الاتجاهين؛ اتجاه الحوار واتجاه رفضه، فالمشكلة أن العمامة تعيق حراكاً يسعى نحو الحوار، وتعيق على الجانب الآخر حراكاً متشدداً يسعى للصدام، مشكلة عيسى قاسم صاحب العمامة أن هذه العمامة تجمدت ووقفت في عالمها الافتراضي عند السبعينات ولم تخرج منها حين كانت تقود الكتلة الإيمانية عام 1973 في البرلمان الأول، وهو واقع افتراضي يريد أن يعيد عجلة الزمن إلى تلك الفترة بأدواتها بمعطياتها وذلك مستحيل.
عيسى قاسم يعتقد أن المخرج لأزمة الوفاق هو الإصرار على مجلس تاسيسي كالذي حدث في السبعينات، ومصر على قيادة كتلة إيمانية كالتي أسسها في السبعينات، ومصر على أن ينسب الفضل لتثبيت الحكم للمجلس العلمائي الذي يقوده مع فروعه من مآتم وصناديق خيرية، ومصر على اللجوء للشارع واستخدامه كأداة من أدوات إدارة الصراع بينه وبين السلطة؛ إنه رجل خارج نطاق الواقع الذي تجاوز كل هذه المعطيات ولا يريد أن يرى ما استجد في الشارع وفي العالم ككل، رجل تجاوز الثمانين ويعيش في عالمه الخاص ولا يريد أن يسمع أو يرى إلا ما يراه داخل فقاعته، ومن المؤسف أن يرتهن مصير جماعة بأسرها إلى هذا الغائب عن الواقع.
عيسى قاسم لا يبحث عن حل للجماعة؛ بل يتمسك بحل واحد لا ثاني له، وتلك عقلية غير تفاوضية تشكل عائقاً أمام حراك توافقي أو حلول وسطية ولا تملك أي دينامكية تحسب حساب الربح والخسارة من منطلقات واقعية، بل ترتكز على التاريخ الماضي والتاريخ السبعيني ولا تراوح عنه، وهذه قيادة انتحارية.
داخل الوفاق كذلك تيار آخر متشدد أكثر لا يرى أي شرعية في الحكم أبداً ولا يعترف لا بسبعينات ولا بتسعينات ولا بألفين ولا بأي ظروف واقعية، ومصر إلى الآن على قلب نظام الحكم بالكامل، وهم فلول حق ووفاء المرتهنين بالكامل للقرار الخارجي من العراق ولبنان وإيران، ويتلقى التعليمات من الخارج ويمول بشكل واضح وصريح من الخمس وله فروعه الكويتية والعراقية واللبنانية، وقيادته المحلية رهن المحاكمات ومنهم أعضاء في لبنان الآن وهم يشكلون حلقة وصل بين الداخل والخارج ومسؤولون عن أعمال العنف والإرهاب بشكل أساس، وهي كتلة ترفض الشرعية وترفض الحوار وترفض الوساطة، وتستعين بماكينة إعلامية على استعداد لتدمير وحرق أي عضو من الوفاق يلمح بقبوله الحوار، لذلك تتوارى قيادات الوفاق خوفاً من هذه الماكينة، فلا هي القادرة على كبح جماحها ولا هي القادرة على التبرؤ منها.
وهناك كتلة أخرى داخل الوفاق راهنت عليها أمريكا، لمعت فيها وبيضت وصقلت ودربت ومنحتها الجوائز، وحاولت المستحيل لصناعة أبطال شعبية منها، لكنها خذلتها، فهي أجبن من مواجهة المتشددين من التيار الولائي النجفي أو مواجهة الشيرازيين المتشددين القميين، صوتها ضعيف ولا يزيد عن الهمس داخل الغرف المغلقة ومهاجمة الحكومة البحرينية في وسائل الإعلام المفتوحة لها دون غيرها.
مجموعة (لا تهش ولا تنش) داخل الوفاق على رأي المثل، كان من المخطط لها أن تقود تيار الاعتدال التكنوقراطي ليس داخل الوفاق بل على المستوى الوطني، وتشكل لها قاعدة من كلتا الطائفتين لتكون نواة للتغيير، بعضهم في الكتلة النيابية وبعضهم في المنظمات الحقوقية، لكن المشكلة في هؤلاء أنهم بلا ثقل اجتماعي وبلا تاريخ سياسي، وليس لهم قاعدة شعبية جماهيرية حتى داخل الشارع الوفاقي، والمشكلة الأعظم أنهم حين تحضر العمامة فإنها بالفعل جماعة تاكل (..)، ولم ينفع لا تدريب ولا جل ولا أي بدلة أو أي تدريب لتقوية وضعهم وزيادة جرأتهم، رغم أنهم في غرفهم المغلقة يلعنون هذه العمامة ويعرفون مدى تسلطها وجهلها، لكن الشجاعة جينات لا تزرع صناعياً.
اليوم الوفاق تعيش كل هذه الصراعات التي مرت بها في بداية تشكيلها ومن كل هذه التيارات ويزيد عليها، أن الضغوط الدولية دخلت على الخط تحثها إلى الظهور بمظهر القوى السياسية السلمية والتي تعمل ضمن الأطر الدستورية.
من يستحق الشفقة ليس الوفاق، بل الوفاق جنت على نفسها كأختها براقش بضياع بوصلتها، من يستحق الشفقة فعلاً هم جمهور الوفاق الذي يدفع الثمن في كل مرة نتيجة هذه التيارات المتصارعة وعدم وضوح الرؤيا واختلاف التوجهات، لتضعهم الوفاق في مأزق وحيرة في الاتجاهات، وهي المقيدة (بالوفاء) لدماء الذين سقطوا في صراعها مع السلطة، ومقيدة بالنظرة الأحادية لعيسى قاسم، ومقيدة بالتيار الشيرازي المتشدد، ومقيدة بالضغوط الأمريكية التي تحث أبناءها (الطلبة) فلا تعرف ترضي من وتغضب من؟
من يستحق الشفقة هم هذا الجمهور الذي وثق بقيادته معتقداً أن المسار واضح ومحدد لهم، والنهاية مرسومة وقريبة، فقدم الغالي والنفيس وخسر الكثير الكثير واندفع بلا تفكير، وإذا به يجد نفسه معلقاً مع الوفاق في وسط الطريق بين السماء والأرض وقيادته لا تعرف أين المسار ومتى وكم وكيف؟ لتبقى الأسئلة معلقة داخل الغرف المغلقة، والجمهور مسكين في الخارج يصفق لانتصارات وهمية وفتات يلقى له في كل (ويك إند) في برنامج ترفيهي يستعان فيه بالأناشيد والفيديو والصور والمنصات والمسابقات والشعر عله يبقى واثقاً ومتمسكاً بهذه القيادة الضائعة.
القيادة جرأة وشجاعة وإقدام ومبادرات ومرونة وواقعية وفر وكر ونظرة شمولية وكاريزما وهي مفقودة إلى الآن في كل الوجوه التي إن توفر في أحدهم عنصر غابت عنه بقية العناصر.. ولا عزاء لجمهور الوفاق.