لم يقاضها في المحاكم ولكنه يحاكمها بطريقته وإن لم ينطق بما يعاني منه مشافهة ليعبر عن واقع تعاني منه فئة من أفراد هذا المجتمع المتقدم بكثير من المقاييس. فالمتخلفون عقلياً في البحرين ليس لهم غير الله، أي أن الحكومة لم تقدم لهم أي شيء، ولعلها لا تعرف عنهم الشيء الكافي الذي يدفعها لعمل شيئ لهم. في الأول والآخر، التقصير من الحكومة التي يعتقد البعض أنها أخرجت هذه الفئة -مهما صغرت- من حسابها ومسؤوليتها واعتبرت ما تقدمه لها من خدمات -هي في كل الأحوال بسيطة- كافية. لكن التقصير أيضاً تشترك فيه جهات أخرى أولها الأطباء المعنيون الذين يعالجون أو يتابعون تلك الحالات الخاصة جداً بصمتهم، وثانيها أولياء الأمور المعنيون من الذين ابتلاهم الله بأبناء متخلفين عقلياً، وثالثها المؤسسات ذات العلاقة التي من الواضح أنها لم تبذل الجهد الكافي لتوفير متطلبات أساسية لهذه الفئة من المواطنين وأبرزها مستشفى خاص يهتم بها ويوفر لها العلاج اللازم ويتابع حالاتها. التقصير إذن تتشارك فيه جهات عديدة لكنه بالتأكيد لا يرفع العتب واللوم على الحكومة التي هي مسؤولة عن مختلف فئات المجتمع. ربما من الأسباب التي تجعل أهالي المتخلفين عقلياً يسكتون عن حق أبنائهم في العلاج والرعاية الخاصة والمتقدمة، هو أن أغلبهم إن لم يكن كلهم يحرصون على إبعاد أعين الفضوليين عنهم، فلا يبينون لأحد أن في بيتهم متخلفاً عقلياً (خصوصاً أولئك الذين ينتمون إلى طبقة اجتماعية رفيعة ) فيجترون آلامهم في صمت ويحاولون بطريقتهم تقديم الممكن من الخدمات لأولئك الذين هم في مسؤوليتهم. لكن هذا ينبغي ألا يعفي الحكومة من تحمل مسؤولياتها تجاه هذه الفئة . قبل أيام كنت مع صديق أكاد أقول إنني أعرف تفاصيل حياته، اجتمعنا على العشاء في أحد المطاعم، فوجئت به يسألني إن كنت أعرف أن له أخاً شقيقاً متخلفاً عقلياً، فعبرت عن دهشتي وقلت إنني أدعي دائماً أنني أعرف عنك كل شيء، وظننت للحظات أنه يمزح ويريد أن يختبرني لكنني تيقنت صدق حديثه عندما لمست الألم في صوته. صديقي قال لي إن ما يقلقه هو أن والدته تقدمت في السن، ولأنها هي فقط التي ظلت ترعى شقيقه الذي لا يمكنه أن يستغني عن الآخرين ومساعدتهم له حتى في أبسط الأمور الحياتية كغسل يديه، لذا فإنه صار يعاني من تخيل اليوم الذي يفقد فيه شقيقه المتخلف عقلياً تلك الخدمات التي ظلت والدته تقدمها له والتي هي في كل الأحوال تأثرت سلباً بفعل الزمن. فوفاة والدته المتوقع بسبب التقدم في العمر من شأنه أن يحيل حياة شقيقه إلى جحيم، فلا يجد من يرعاه ويهتم به وإن كسب شيئاً من التعاطف في الأيام الأولى لدخوله هذه المرحلة، فمثل هذه الحالات لا يمكن أن يرعاها سوى الأم.. والمؤسسات المتخصصة التي ينبغي أن توفرها الدولة. ليس الحديث هنا عن المرضى النفسيين أو أولئك الذين يحلو للبعض أن يطلق عليهم لقب المجانين، فهؤلاء يستطيعون أن يقوموا بكافة العمليات التي يستغنون بها عن خدمات الآخرين فمرضهم نفسي، لكن الحديث هو عن أولئك الذين يعانون من تخلف عقلي لا يسمح لهم القيام بأية عملية حياتية تجعلهم يعيشون بشكل طبيعي، وهؤلاء في الغالب لا يكونون قادرين حتى على أبسط تلك العمليات ويظلون بحاجة إلى من يرشدهم ويعينهم حتى في تعاملهم مع دورات المياه. معاناة لا يشعر بها إلا من ابتلاه الله بمثل هذه الحالة ولكنها تستدعي التدخل من الدولة، فهؤلاء مواطنون أيضا وإن لم يتمكنوا من توصيل صوتهم أو الوصول إلى المحاكم!