يجب أن نعترف بداية أن ملف حقوق الإنسان في أي بلد يصنف نفسه ضمن الدول الديمقراطية أو السائرة على طريقها، هو من أهم الملفات التي يجب أن توليها الدولة والمجتمع أولوية مطلقة، لأن حفظ الحقوق والكرامة الإنسانية في التشريع والممارسة والأنظمة هو من أخص أدوار الدولة التي تنشد شرعيتها بين مواطنيها.
كما إن احترام حقوق الإنسان، وفقاً لتعريفها في العهد الدولي، هي من أهم عناصر ومكونات دولة القانون والديمقراطية والحريات، لذلك فإن أي جهد رسمي أو أهلي يبذل لتعزيز هذه الحقوق وتطويرها يجب أن يكون محموداً ومصاناً، لأن دولة الحقوق والحريات هي بالضبط الدولة التي تصان فيها كرامة المواطن وأمنه ومعاشه وحريته وحقه في الاختلاف مع الدولة ومع الآخرين طالما أن التعبير عن هذا الاختلاف سلمي، كما يشعر فيها بالاطمئنان على نفسه وعلى أبنائه وعلى مستقبلهم.
لكن تبدأ المشكلة عندما يتحول ملف الحقوق إلى مجرد ورقة للاستخدام السياسي الداخلي أو الخارجي، ويتحول موضوع الحقوق إلى خط نار للتنازع والتوظيف السياسي، فيؤدي ذلك في الغالب إلى إلحاق أفدح الضرر بالفكرة نفسها، وبالحقوق الفعلية للبشر والتي يمكن أن تضيع وسط الجدل السياسي والصراعات الدولية على النفوذ وعلى توظيف هذا الملف للمزايدة السياسية والإعلامية.
وقد شهد التاريخ الحديث فصولاً من هذه اللعبة عندما تلاعب الغرب بموضوع حقوق الإنسان في مواجهته مع المعسكر الاشتراكي لأكثر من 70 عاماً، وعندما تغيرت الأوضاع وتبدلت معادلة المصالح لم يعد الغرب يطرح موضوع الحقوق والحريات في الصين مثلاً -وهي ماتزال أكبر تجمع شيوعي في العالم- بحكم تنامي المصالح التجارية والاقتصادية والسياسية بين الطرفين على نحو بات يؤثر في الاقتصاديات الغربية بشكل غير مسبوق، لذلك تحولت الورقة إلى مناطق أخرى أكثر رخاوة وقابلية للتغيير بما يمكن من التأثير في المعادلات المحلية لصالح الاستراتيجية الغربية.
إن فكرة حقوق الإنسان -على علوها ورقيها والحاجة الماسة إلى الإعلاء من شأنها باعتبارها جوهر المجتمع الديمقراطي- تشهد اليوم أحرج لحظاتها بسبب اللعب بها من قبل القوى والمنظمات الدولية، وحتى من قبل بعض القوى السياسية المحلية في ظل الإغراءات التي تقدمها هذه الفكرة كعنوان للتوظيف وتغيير الأنظمة وتبرير التدخل بجميع أشكاله ومنحه نوعاً من المشروعية.
لكن الخوف من استخدام هذا الملف والتلاعب به وتوظيفه للمس بالاستقلال الوطني والسيادة الوطنية لا يجب أن ينسينا أن ملف حقوق الإنسان السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمدنية في أغلب البلدان العربية مايزال في حدوده الدنيا، كما تشير إليه مؤشرات التقارير الدولية، رغم التباهي بالالتزام بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومصادقة معظم الدول العربية على كل الاتفاقات والعهود والمواثيق الدولية التي تكفل هذه الحقوق، وأعتقد أن النضال الحقيقي يجب أن يتركز على كفالة أقصى درجات الحقوق الإنسانية ولو بشكل تدريجي، بدءاً بالحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية في تكاملها وعدم الفصل بينها، من خلال الشراكة مع السلطات والدفع بها لتكون رشيدة وقابلة للمساءلة وقادرة على أداء دورها في إدارة الحكم بكفاءة ونزاهة وعدالة، أما التحول بالملف إلى أداة للضغط الخارجي على السلطات فقد يؤدي في الغالب إلى خلط الأوراق وإلى التأخر في تحقيق المكاسب، فضلاً عن المخاطر والمنزلقات التي يمكن أن يفضي إليها مثل هذا التوظيف، خاصة وأن هذه الفكرة النبيلة التي طالما ناضلت شعوب الأرض من أجلها قد تحولت اليوم إلى أداة في يد من درج على انتهاكها عبر العنصرية والتمييز والحروب والاستعمار وانتهاك حقوق الشعوب في الاستقلال وإدارة شؤونها بنفسها والتحكم في مواردها.
كما لا يجب أن يغيب عنا أن القوى الاستعمارية ماتزال إلى اليوم تستخدم هذا الملف لاستثمار المصالح للرأسمالية العالمية في ظل العولمة المتوحشة، ويأتي التوظيف الجديد له في المرحلة الجديدة بعد محاولة القوة الأمريكية إنهاء لعبة مصالح الأمم لصالحها عبر ترويع العالم بتعميم ثقافة “نهاية التاريخ” ونشر “نظرية الإرهاب” بحجة نشر الديمقراطية والقضاء على الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر، بهدف فرض أحاديتها القطبية وسيطرتها على العالم.