العظمة موقف، ممارسة، فعل إنساني يساهم في البناء الاجتماعي في كل الأزمنة. وفي التاريخ العربي مشاهد رائعة لا يمكن للمرء إلا أن يقف أمامها مندهشاً ومذهولاً لقوتها وعمقها الإنساني، ومن هذه المشاهد؛ القصة التي رواها بقلمه الجميل الداعية الراحل علي الطنطاوي في كتابه “قصص من التاريخ”، والشيخ على الطنطاوي واحد من المتحدثين الذين تربينا على أيديهم ومواعظهم في رمضانات القرن الماضي، وعرفنا من خلاله العديد من الأمور الدينية والدنيوية التي ساعدتنا على فهم أنفسنا والآخرين الذين يعيشون معنا.
ونشر القصة صدّيق الغبّان في إحدى صفحات الإنترنيت تحت عنوان (أعظم مشهد في التاريخ)، تقول القصة..
نادي الغلام: يا قتيبة “هكذا بلا لقب”، فجاء قتيبة وجلس هو وكبير الكهنة أمام القاضي “جُميْع”، ثم قال القاضي: ما دعواك يا سمرقندي؟.
قال: اجتاحنا قتيبة بجيشه ولم يدعنا إلى الإسلام ويمهلنا حتى ننظر في أمرنا.
التفت القاضي إلى قتيبة وقال: وما تقول في هذا يا قتيبة؟ قال قتيبة: الحرب خدعة، وهذا بلد عظيم، وكل البلدان من حوله كانوا يقاومون ولم يدخلوا الإسلام ولم يقبلوا بالجزية.
قال القاضي: يا قتيبة هل دعوتهم للإسلام أو الجزية أو الحرب؟.
قال قتيبة: لا إنما باغتناهم لما ذكرت لك. قال القاضي: أراك قد أقررت، وإذا أقر المدعي عليه انتهت المحاكمة، يا قتيبة ما نصر الله هذه الأمة إلا بالدين واجتناب الغدر وإقامة العدل.
ثم قال: قضينا بإخراج جميع المسلمين من أرض سمرقند من حكام وجيوش ورجال وأطفال ونساء وأن تترك الدكاكين والدور، وأنْ لا يبقى في سمرقند أحد على أنْ ينذرهم المسلمون بعد ذلك.
لم يصدق الكهنة ما شاهدوه وسمعوه، فلا شهود ولا أدلة ولم تدم المحاكمة إلا دقائق معدودة، ولم يشعروا إلا والقاضي والغلام وقتيبة ينصرفون أمامهم، وبعد ساعات قليلة سمع أهل سمرقند بجلبة تعلو وأصوات ترتفع وغبار يعم الجنيات، ورايات تلوح خلال الغبار، فسألوا فقيل لهم إنَّ الحكم قد نُفِذَ وأنَّ الجيش قد انسحب، في مشهدٍ تقشعر منه جلود الذين شاهدوه أو سمعوا به.
وما إنْ غرُبت شمس ذلك اليوم إلا والكلاب تتجول بطرق سمرقند الخالية، وصوت بكاءٍ يُسمع في كل بيتٍ على خروج تلك الأمة العادلة الرحيمة من بلدهم.
ولم يتمالك الكهنة وأهل سمرقند أنفسهم لساعات أكثر حتى خرجوا أفواجاً وكبير الكهنة أمامهم باتجاه معسكر المسلمين وهم يرددون شهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله..
فيا لله ما أعظمها من قصة وما أنصعها من صفحة من صفحات تاريخنا المشرق، أرأيتم جيشاً يفتح مدينة ثم يشتكي أهل المدينة للدولة المنتصرة، فيحكم قضاؤها على الجيش الظافر بالخروج؟ والله لا نعلم شبهاً لهذا الموقف لأمة من الأمم.
بقي أن تعرف أن هذه الحادثة كانت في عهد الخليفة الصالح عمر بن عبدالعزيز، حيث أرسل أهل سمرقند رسولهم إليه بعد دخول الجيش الإسلامي لأراضيهم دون إنذار أو دعوة فكتب مع رسولهم للقاضي أن احكم بينهم فكانت هذه القصة التي تعتبر من الأساطير.
إن هذه الحكاية وغيرها من الحكايات العربية، هي ما نريد التأكيد عليه، بأن تاريخنا وتراثنا وتقاليدنا تحمل ما لا يحصى من الحكم والأمثال والمواعظ، والتي قمنا بتطبيقها في أيامنا هذه لاستطعنا التخلص من العديد من المشاكل العالقة في علاقتنا الاجتماعية المحلية والعربية والعالمية.
من هنا، دائماً ما أؤكد على قراءة مثل هذه الومضات وتوسيع رقعتها وتحويلها أحد الدروس الأساسية التي تقدم للطلبة في مدارسهم، من أجل تحويلها إلى الفعل اليومي، في الحديث والسلوك، كل ومضة من تاريخنا تحتاج إلى وقفة.
لكي تصبح إنساناً عظيماً اصنع شيئا ًعظيماً، وهذا لا يعني أن تصرف الملايين من أجل بناء نووي، أو تصل الكون بصواريخ أسرع من سرعة الضوء بعدة أضعاف. العظمة هي أن تبتسم في وجه أسوأ الظروف. العظمة في أن ترى جمال الشوكة في نفس جمال الوردة. العظمة في أن ترى الظلمة كما ترى النور. إن وصلت إلى هذه الدرجة من الوعي. اعتبر نفسك واحداً من أعظم الناس.