لمّا طغى الإنسان في إهلاك ما استُؤمن من الأرض والغابات والمحيطات، كانت تلك هي اللحظة الفارقة بين عهدين من الزمان، الأول كانت فيه الأرض متألّقةً ومزدانة تنبض بالحياة، وزاخرةً بتنوعٍ غنيٍ ومتناغم. والثاني كانت فيه مختلّة التوازن مقوّضة الميزان، حيث الظواهر المفزعة التي لا رادع لها، والكوارث المهلكة التي لا مصدَّ يوقفها، وانقراض ملايين الأحياء والأشجار والأثمار.
إننا اليوم إذ نقف مدركين هول جريمتنا، على أنقاض ما دمّرناه من أرضنا وبيئتنا وما أفسدناه من تنوعنا وتناغمنا، في سباقنا المحموم لشفط منابع الطاقة التي تدير نمونا واقتصادنا ومصانعنا، وفي استهلاكها دون مراعاة لحجم إفسادها وتلويثها لمحيطنا، وفي تفريغ أرضنا وغاباتنا ومحيطاتنا من ثرواتها وخيراتها. إن خلاصنا اليوم بلا ريب يكمن في ثلاثية أساسية، سيؤمن بضرورتها حتماً كل متأملٍ لهول ما وصل إليه كوكبنا من فسادٍ وإفسادٍ في البيئة وتنوعها وتناغمها، وهي بوابات عبورنا نحو مستقبلٍ آمنٍ ومستدام: أولاها استبدالنا لمنابع الطاقة، من تلك التي تحت أرجلنا إلى التي في الأعلى، حيث المصادر المتجددة في الشمس والرياح والأمطار وغيرها، وتطوير مكنتنا لاستثمارٍ أمثلٍ لها، ووضع الخطط العملية للسّير باتجاهها. وثانيها في تسخير عقولنا البشرية، والدفع بمكتشفينا ومخترعينا نحو ابتكار حلولٍ وبدائل واستحداث تقنيات، تكون بديلة ومعوّضة عن استنفاذ وإنهاك مصادرنا وثرواتنا عسيرة التجدد، وعدم ادخار أي جهدٍ لتحفيز باحثينا وشبابنا وكوادرنا، لأنْ ينضمّوا لهذا التنافس البنّاء. وأخيراً وحتى تكتمل حلقة الخلاص، لابد من المضي قدماً في ترميم ما أفسده إنسان العصر الحديث في أرضنا وبيئتنا بكل الطرق الممكنة والمبتكرة، والتي منها على سبيل المثال لا الحصر: مشاريع الاستزراع لأحيائنا ونباتاتنا النادرة وتشييد المحميات الطبيعية، التي تحافظ على بيئةٍ بكر تحتضن شتى الأنواع والأجناس، وكذلك حملات المليون شجرة والمليار زرعة وغيرها.
إنَّ نجاح حلولنا تلك تتوقف بشكلٍ رئيسي على تبديل طرائق تفكيرنا وأنماط علاقاتنا وتواصلنا مع بعضنا كدول وأفراد، منطلقين من وحدة الهمّ البشري كشركاء على هذا الكوكب، يربطنا مصير واحد، وإنْ تفاوتت ظروفنا وأحوالنا وحجم رفاهنا الاقتصادي والاجتماعي، وفي تنسيق وتعاون أممي تام وكامل، بعيداً عن الأنانية التي لا تستقيم بدورها مع هذا التوجّه في إنقاذ عالمنا، وبعيداً كذلك عن شهوة الإنسان الطاغية في الاستحواذ والعلو والتفوق الذي طالما جلب الدمار لأرضنا وبيئتنا.
إنَّ الضمانة الحقيقية اليوم هي في إحداث تغيير جذري على صعيد القناعات والمفاهيم عند الأفراد وقبلها عند الدول، بأنَّ كل الأنماط والطرائق القديمة لم تُجدِ نفعاً أو تحل مشكلة، بل على العكس من ذلك فالهوة بين الأغنياء والفقراء مازالت تتسع يوماً بعد يوم، والجوع أضحى يهدد حياة مليار إنسان، والدمار والإفساد طال كل بقاع الأرض دون استثناء لدولة قوية أو ضعيفة أو شعب غني أو فقير.
وكذلك ومن زاوية أخرى، تكمن الضمانة في ترسيخ مناهج جديدة وآليات تفكير مختلفة تحكم سلوكنا وأنماط استخدامنا لمواردنا الطبيعية، تلك التي تتجه بنا نحو تفضيل الأبقى والأنظف من المصادر والموارد على الأسرع والأسهل منها، وأنْ ننبذ سلوكنا الاستهلاكي غير المنضبط، والتأكيد الدائم بشتى الطرق والأساليب على أنَّ التفوق والتقدم يكون في الاستخدام الأمثل والمستدام للطاقة والموارد، لا في تتبّع منابع الطاقة والثروة والهيمنة عليها.
إنَّ المسؤولية الرئيسية اليوم تقع على عاتق الحكومات، تلك التي أفسدت وتلك الأخرى التي قبلت ورضت بذلك ولم تحرّك ساكناً، إننا لا نحتاج إلى مزيدٍ من المؤتمرات والقرارات والمواثيق والمعاهدات، بل نحتاج في واقع الحال إلى لحظة صدق ونية حقيقية للتغيير دون خطب رنانة وتباكٍ لا يتبعه عمل، لأننا قد بدأنا نستنفذ وقتنا الضائع وفرصنا الأخيرة لإنقاذ ما تبقى على كوكبنا. فلنتوقف عن الكلام! ولنبدأ العمل.
{{ article.visit_count }}