في التاسع من شهر مارس الماضي نشرت إحدى الصحف المحلية تصريحاً لمستشار جلالة الملك للشؤون الإعلامية نبيل الحمر نصه أن «الأمور متجهة للحوار لجميع مكونات المجتمع البحريني، والكل لديه الرغبة في إنهاء هذه الأزمة التي مرت بها البحرين».
وقال الحمر في تصريح لموقع سي إن إن العربية إن «اتصالات جادة تجرى لبلورة الرؤى لجميع الأطراف الرسمية والأهلية والوطنية التي تسعى لإيجاد حل، وإن هذه الاتصالات بدأت منذ شهر واحد ومستمرة، وسوف ينتج عنها حوار يشمل الجهات المعنية قريباً». واتفق مع الحمر النائب المستقيل عن كتلة الوفاق جميل كاظم العلوي الذي توقع بدء حوار جدي خلال العشرة أيام المقبلة، مشيراً إلى أن الوفاق ستدخل الحوار دون شروط مسبقة، مؤكداً أن المعارضة مستعدة للتفاوض والتنازل عن بعض مطالب «وثيقة المنامة».
بعد فترة قصيرة من هذا التصريح؛ أعلن رسمياً فشل الحوار بعد استلام مرئيات الجمعيات السياسة المعنية من قبل المسؤولين الرسميين، ومنذ ذلك الحين ساد صمت عميق على جبهة الحوار، في الوقت الذي شهدت فيه البحرين زيادة في وتائر وجرعات العنف في محاولة لتحريك المياه الراكدة وحلحلة الجمود على جبهة الحوار في تكتيكات وتكتيكات مضادة لكسب مواقع جديدة وتقوية الوضع التفاوضي، ومحاولة إنهاك الطرف الآخر حتى يحين الموعد المناسب للحوار بعد أن تكون الظروف قد تهيأت ونضجت المقدمات للحوار. ورغم ميل ميزان القوى لصالح الدولة في مقابل المعارضة؛ إلا أن الطرفين كانت لديهما رهانات وآمال بأن تتغير الأوضاع والتوازنات المحلية والإقليمية والدولية لصالحهم. وأعتقد أن هذا الوضع لا يزال قائماً، فالنزال الذي جرى مؤخراً في جنيف أثناء مناقشة واعتماد تقرير الفريق العامل المعني بالاستعراض الدوري الشامل لمملكة البحرين بتاريخ 25 مايو الماضي، هذا النزال هو إحدى المحاولات لتعديل كفة الميزان لصالح أما الطرف الرسمي أو المعارضة على هذه الجبهة الحقوقية العالمية. وأعتقد أن الطرفين لم ينجحا في تحقيق اختراق كبير على هذه الجبهة.
على المستوى المحلي لم يعد التصعيد النوعي والتكتيكي للمعارضة (أو جزء من هذه المعارضة إذا ما تحرينا الدقة) مفيداً، وأنه لم ينجح في «تخويف» الدولة من استخدام أساليب عنف نوعية في مواجهة قوات الأمن باستخدام المفخخات والقنابل المحلية الصنع، إضافة لاستخدام المولوتوف وأسطوانات الغاز وأسطوانات إطفاء الحريق وحرق الإطارات والسيارات وسكب الزيت في الشوارع، كما كان معهوداً منذ بداية المواجهات في فبراير ومارس من العام الماضي.
أما الرهان الإقليمي على تغيير بعض الأوضاع في مصر واليمن وفي سـوريا بالذات؛ فإنه يستحق الوقوف عليه لما له من تأثير استراتيجي على التوازنات الإقليمية بين محور (إيـران - سوريا - حزب الله) وبين محور ما تسمية إيـــران «محور الشــر» بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. فسقوط نـظام الأسد «المحتوم» سيكون مدوياً يصل صداه وتأثيره إلى كثير من عواصم العالم الشرقي والغربي ناهيك عن التأثير في الجوار العربي والخليجي بشكل خاص. وعلى المستوى المحلي في البحرين فإن ذلك السقوط سيؤدي دون شك إلى إضعاف القوى المؤيدة لجزء كبير من المعارضة العنيفة في البحرين ممثلة في إيران وحزب الله وبعض الأحزاب الصغيرة الأخرى. وهذا بدوره سينعكس على معنويات القوى المتشددة في الشارع «الشيعي». حتى الآن فإن الصراع على الحكم في سوريا لم يحسم بعد ولا أحد يمكنه التكهن بوقت السقوط وسيناريوهات السقوط المختلفة التي تتراوح بين الطريقة اليمنية والطريقة الليبية.
بالمقابل فإن هناك رهان آخر من جهة المعارضة أن هناك احتمال أن يصل المد الثوري أو ما يعرف بتسونامي الربيع العربي إلى الدول العربية الأخرى بما فيها دول مجلس التعاون الخليجي. أما الرهان الإقليمي الأكبر فيكمن في توقعات البعض وتمنياته بقيام كل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل (متحدة أو منفردة) بتوجيه ضربة قاضية إلى البرنامج النووي الإيراني الطموح لامتلاك السلاح النووي حسب اعتقاد أمريكا والغرب. وهذا الرهان صعب التحقيق في الوقت الراهن نظراً لقرب الانتخابات الرئاسية الأمريكية ولظروف التحالفات المحلية الإسرائيلية ومدى الاستعداد لهذه الضربة التي ربما لن تكون سهلة المنال ودون تضحيات؛ بل بتضحيات ومخاطر كبيرة وواسعة. بالمقابل فإن هناك رهان آخر يتحدث عن تفاهمات أمريكية – إيرانية قد تفضي إلى انفراج في العلاقات المتأزمة بين واشنطن وطهران، في ظل حاجة أمريكا إلى دور إيراني مساند لها في خططها الرامية إلى الانسحاب من أفغانستان، وقبل ذلك من العراق وتأمين وضمان أمن إسرائيل فضلاً عن ضمان مرور النفط والغاز وإمداداته بشكل اَمن عبر مضيق هرمز إلى أسواق أمريكا وأوروبا والعالم أجمع دون انقطاع أو عرقلة.
هذا رهان وارد ويعتمد بشكل أساسي على استعداد إيران لقبول مزيد من التعاون مع (محور الشر) حتى لو كان ذلك بشكل غير علني، كما حدث في العراق وأفغانستان، وكما حدث أثناء شن الولايات المتحدة الأمريكية الحرب على الإرهاب في العالم. فالتعاون الاستخباراتي وربما اللوجستي بين الطرفين كان مثالاً جيداً للتعاون رغم حالة العداء المعلن.
إن نظام الملالي في إيران نظام برغماتي رغم كونه نظاماً شمولياً، لذلك فمن غير المستبعد أن يُدخل إيران -أن لم تكن قد دخلت فعلاً- في تفاهمات مع أمريكا في ظل زيادة قناعة إيران أن حلفاءها الإقليميين (سوريا وحزب الله) والدوليين (روسيا والصين) لم يعودوا بالقوة التي كانوا عليها سابقاً، وأنه لا بد من استخدام ما يمكن استخدامه من وسائل لمنع الضربة المرتقبة، وإقناع العدو اللدود أمريكا بإمكانية التعايش والتفاهم ضمن أطر محددة توافق بموجبه أمريكا بحجم مناسب للدور الإيراني الإقليمي الطموح، والذي تريد القيادة الإيرانية لطهران أن تلعبه وضمن لعبة تبادل المصالح وتبادل الأدوار دون الإفصاح عن هذه التفاهمات، وهو ما حدث بالفعل حيث قيام أمريكا بعرقلة اندفاعه الثورة السورية مؤقتاً، ربما لإرضاء إيران جزئياً أو لطمأنة إسرائيل وروسيا (كل لأسبابه) ريثما يكون المسرح جاهزاً والبديل المناسب قد توفر أيضاً في نقل سلس للسلطة في سوريا. وفي خضم هذه «الشرباكة» الإقليمية / الدولية / المحلية؛ يتجدد الحديث عن المصالحة الوطنية والحوار. حيث أبرزت الصحف المحلية تصريحات لمسؤوليين كبار في الدولة تتحدث وبشيء من الاستفاضة عن الحوار. فقد تحدث وزير العدل عن الحوار في مقابلة مع (فرانس برس) وأن الباب مفتوح لأي نوع من أنواع الحوار، لكن الحوار لابد أن يكون مبنياً على الإدانة الصريحة للعنف وعلى الاعتراف بالجميع والانفتاح على جميع مكونات المجتمع. فيما قالت الجمعيات السياسية الخمسة أن (المعارضة تتحرك في إطار سلمي، ومع رفضنا للعنف من أية جهة فإننا نطالب بحوار جاد وشامل). (المؤتمر الصحافي للجمعيات يوم الخميس 24 مايو 2012).
وسبق هذه التصريحات تحركات أخرى جرت في البحرين وفي واشنطن ترمي إلى تضييق الفجوة وتقريب وجهات النظر حول آليات الحوار وموضوعاته، إضافة لتصريحات وزيرة الدولة لشؤون الإعلام أن «هناك خيوطاً للحوار بدأت وأن العمل جار لتذليل العقبات والصعوبات التي تطرحها المعارضة من شروط تعجيزية، بل أن هناك اتصالات ووساطات لتحقيق ذلك ولكن المحاولة بطيئة».
وإذا كانت هذه التصريحات تؤكد وجود «بدايات» للولوج إلى لجة الحوار، فإن هذا الأمر لا يعدو كونه تصريحات قد لا تختلف عن التصريحات التي أطلقت في شهر أغسطس 2011 وفي شهر مارس 2012 وفي غيرها من مناسبات دون وصول الفرقاء للجلوس حول طاولة المفاوضة أو حتى دون الاتفاق على نوعية الحوار وآلياته.
لكن المأمول أن فترة الخمسة عشر شهراً التي أعقبت أحداث فبراير ومارس 2011 المؤسفة كافية لإقناع الجميع أن السبيل الوحيد للخروج من الأزمة هو التفاهم للجلوس على طاولة الحوار مهما رفعت المعارضة من سقف مطالبها ومهما خفض الجانب الحكومي السقف في تجاوبه لمطالب المعارضة. وإذا كانت الشرباكة الإقليمية / المحلية تلقى دوماً بظلالها على سلوك الأطراف في التعامل مع الآخر وفي تعاطيه مع مبدأ الحوار، فإن المطالب الوطنية تؤكد على ضرورة وأهمية الخروج من هذا الوضع المزري والمأزوم قبل فوات الأوان.
كذلك فإن المراهنة على الخارج وعلى القوى الدولية والإقليمية في الضغط على النظام لتغييره أو حتى إجباره للجلوس إلى مائدة المفاوضات لم تعد مجدية نظراً لوجود مصالح استراتجيه لهذه القوى تحكمها وتحكم سلوكها بعيداً عن مصالح المعارضة، لذلك فإن على الدولة والمعارضة وكل القوى المعنية بإعادة اللحمة الوطنية إلى المجتمع أن تسعي عبر الحوار للوصول إلى حلول توافقية تلبي الاحتياجات الملحة والأساسية للوطن والمواطن دون القفز على الظروف المستجدة أو حرق المراحل، وقبل كل شيء نبذ الطائفية والتمييز ونبذ العنف بكل أشكاله والعمل معاً على مداوة الجروح ومحو أثار ما جرى بل ومنع تكرار ذلك. وأعتقد أن ما هو مطلوب من الجميع التنازل عن بعض من مطالبه وتفهم موقف الآخر دون جحد وإنكار للمطالب الرئيسة في الإصلاح، وتأكيد المشاركة الشعبية في صنع القرار السياسي والاقتصادي والعمل بنفس وطني لإخراج البلد من لجة الطائفية البغيضة.