حين صرّحَ نوري المالكي أن قضية نائبه “صالح المطلك” هي قضية بسيطة وسهلة لأنها “سياسية” يمكن حلها بالحوار، أما قضية طارق الهاشمي فهي قضية “قضائية بحتة” لا تُحلّ إلا من خلال المحاكم!، فالمالكي يعني ما يقول، لأن قضيته مع المطلك محصورة في إطار المُناكفات السياسية التي يُمكن أن تُحلّ بالحوار أو بالأحرى عبر الصفقات التي اعتاد المالكي عليها!!.. أما قضية نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي فهي كما يقول المثل العراقي (دكَّت بالعظم!!).. أي لا مجال للتراجع عنها خاصة بعد أن بذل أعوان نوري المالكي وأزلامه في الأجهزة التحقيقية الأمنية والقضائية قصارى جهودهم لإخراج وترتيب الملفات للقضايا “مجهولة الفاعلين” على مدى خمس سنوات ومن ثم تلبيسها لحمايات طارق الهاشمي مستعينين بآخر إبداعات التعذيب لانتزاع الاعترافات!!.
لكن قضية حسم ملفات المحكوم غيابياً بتهم الإرهاب “مشعان الجبوري” الخصم العنيد لنوري المالكي، والذي تحوَّل بين ليلة وضحاها أو بين صفقة وأخرى إلى أكبر مدافع عنيد عن وطنية وإخلاص نوري المالكي.. وراحت أدراج الرياح، تصريحاته النارية وتعليقاته الثورية عبر القنوات الفضائية التي كان يديرها بتمويل معلوم، وعاد لينشئ فضائية جديدة باسم “الشعب” يكرسها للدفاع عن وطنية نوري المالكي.. إن قضية الجبوري تشكّل فضيحة أخرى على المستويات كافة: الأخلاقية، والسياسية، والقانونية والقضائية.. فكيف أبطلت أحكام الإعدام بحق مشعان، وأطلق سراحه وتم تبييض صفحاته الجنائية وعاد مناضلاً عنيداً يدافع عن نوري المالكي.. وبالتأكيد فإن المسألة لا تخرج عن نطاق التأثير والضغط السوري، فمصالح مشعان التجارية كلها في سوريا، وبعلم المخابرات السورية، وهو مدين لبشار الأسد الذي احتضن مشعان وسمح له بإطلاق فضائياته من دمشق، من (الزوراء) إلى (الرأي) ثم (الشعب).. وبالتالي لا يمكن لبشار الذي اصطف بالحصيلة الطائفية الإيرانية مع نوري المالكي، خصم الأمس المشاكس، والحليف العتيد اليوم، وتلك هي أخلاقيات السياسة في عالمنا العربي.. أن تجد الحلفاء يوماً خصوماً فاجرين في اليوم التالي.. وبالعكس...
قضية مشعان الجبوري تشكل وصمة عار في جبين القضاء العراقي الذي ثبت بما لا يقبل الشك تسييره من قبل السلطة التنفيذية وتحديداً من قبل رئيس الوزراء نوري المالكي وفق هواه وأوامره..
إن ورطة نوري المالكي في قضية الاتهامات التي (فبركت) و(أُخرِجَتْ) بشكل (مخربط) بحق طارق الهاشمي، بحيث وصلت الفوضى إلى استخراج مئات القضايا المسجلة (ضد مجهول) وتجييرها ضد طارق الهاشمي ابتدأت بـ (50) ثم(100) ثم(200) وقيل إن عددها بلغ الآن (300 قضية)!!، وربما أكثر، وتتمثل ورطة نوري المالكي في الآتي:
1- إن أجهزة المالكي سارعت وقامت بإبلاغ المشتكين وعوائل ضحايا (الـ300 قضية!!) أن الهاشمي وحماياته هم من يقف وراء الجرائم التي استهدفت ذويهم، وبالتالي دخلت المسألة في إطار “الشحن الطائفي الصريح” و«تأليب طائفة ضد طائفة أخرى”، وهو تأليب لا يقل خباثة عن حادثة تفجير مرقدي سامراء عام 2006 وما جرى بعده من أحداث دموية.
2- إنّ تحويل القضايا من (مجهولة الفاعل) إلى (معلومة الفاعل) يُحرج القضاء وبخاصة في ظل الاستخدام المفرط لأجهزة الإعلام في الترويج لتلك القصص، مما يجعل القضاء تحت رحمة ضغط الرأي العام الطائفي، والاعترافات التلفزيونية، ويؤثر سلباً على مهنية وحرية واستقلال القضاء.
3- إن مسألة انتزاع الاعترافات بوسائل التعذيب التي خبرتها وتفننت بها أجهزة الشرطة والأمن والمخابرات في العراق على مدى العقود الخمس الماضية، وصارت تقليداً ثابتاً وخبرات متوارثة وعلامة مسجلة لدى هذه الأجهزة، منذ قصص (قصر النهاية) و(زنازين البتاوين) و(زنازين البلديات) و(المواقف والتسفيرات) و(اللجان التحقيقية الخاصة) و(المحاكم الخاصة)، وغيرها عشرات.. بحيث انتشرت لدى هذه الأجهزة ثقافة (لا مستحيل في التحقيق) و(لا جريمة تمر دون كشف) بسبب تفنن خبراء التعذيب الذي أورثوا خبراتهم لجيل ما بعد 2003 (سواء من الأصليين أم من الدمج!!)، بل إن عدداً لا يُستهان به من عتاة التعذيب قبل 2003، مازالوا يُقدّمون خدماتهم الفعلية والاستشارية لجيل نوري المالكي من المحققين المتفننين بأساليب التعذيب التي تجعل الشخص يعترف ويقر بكل ما يمليه عليه المحقق الفنان، تخلصاً من آلام التعذيب التي لا يتحملها بشر!!...
4- تكمن ورطة نوري المالكي في قضية أو قضايا طارق الهاشمي وحماياته أن نوري المالكي لن يستطيع أن يتراجع أمام كمّ (الورطة) التي ورَّطه بها محققوه وسجّانوه وقضاته، بحيث ليس أمامه سوى أن يسير إلى النهاية في الدرب الخطير الذي سلكه، ولذلك حرص على توريط (الإنتربول) معه في تعميم أمر القبض الذي أصدره قضاة نوري المالكي ضد نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي.
5- كما إن عملية الشحن الطائفي التي لجأ لها نوري المالكي، في تأليب الشيعة ضد الهاشمي، من خلال تسيير التظاهرات التي غطتها أجهزة إعلام المالكي في الناصرية والبصرة والحلة ومدن أخرى تطالب بإعدام الهاشمي، وتطالب تركيا بتسليم الهاشمي، وقيام الغوغاء بإحراق العلم التركي والتهديد بضرب المصالح التركية في العراق!.. وهي عملية لا تخلو من التنظيم والتحريض وليست عفوية مطلقاً، هذه العملية زادت من إصرار نوري المالكي على السير بالقضية حتى النهاية.
6- إن عملية إخراج سيناريوهات المُحاكمة الهزلية لطارق الهاشمي وحماياته التي يبدو أنها تقع في إطار المخطط الذي يهدف لإخراج نوري المالكي من ورطته، عبر تثبيت التهم على المُعترفين تحت ضغط التعذيب دون مراعاة مطالب المتهم بالقضية، وتوفير الضمانات والتطمينات التي توفر له فرصة الدفاع عن نفسه وفق القانون.
إن القضاء العراقي اليوم أمام اختبار صعب وقاس وخطير، لقياس مدى التزامه بسمعة القضاء العراقي النزيه والمستقل، أم تستمر ألاعيب السياسة والطائفية تفعل فعلها في دهاليز القضاء الذي يتحكم به عتاة مجرمي بل فنانو التعذيب وتلك الطامة الكبرى إن رضخَ القضاء لإرادة السلطة التنفيذية وأعوانها وتحوَّلَ إلى أداة لتنفيذ إرادتها في الشحن الطائفي وتلفيق التهم ضد الخصوم لإسقاطهم سياسياً.. ومع ذلك فإننا بانتظار موقف شجاع للقضاء العراقي.. ليكشف كل الحقائق أمام الشعب ويُنصف المظلومين. إن قضية التهم الموجهة ضد طارق الهاشمي تضع القضاء العراقي في أصعب امتحان له في تاريخه