في تصريح منشور مؤخراً لسعادة وزيرة التنمية الاجتماعية الدكتورة فاطمة البلوشي نقرأ ما يلي: «إن القانون البحريني يسمح للجمعيات الأهلية بتلقي الدعم من الخارج بعد الترخيص بذلك من الوزارة مع وجود إجراءات واضحة لتلقي الأموال من الخارج وإرسالها».
أن يسمح القانون نفسه بالتمويل الأجنبي للجمعيات السياسية ولجمعيات المجتمع المدني فتلك مصيبة ما بعدها مصيبة وبلاء ما بعده بلاء. لأن الأصل في تمويل الجمعيات سياسية وغير سياسية هو الدولة والمجتمع المحلي (أي المنخرطون في الجمعيات والتبرعات). ولان أصل كل تدخل وكل بلاء هو في التمويل الأجنبي لمن يمارس السياسة او النشاط الحقوقي تحديدا لان من يمول تلك الأنشطة من الخارج يمتلك ان يؤثر وان يوجه، يستثنى من ذلك الدولة لأنها عندما تمول الجمعيات فإنها تفعل ذلك من باب التمويل العمومي المعلن والمحدد في ميزانية الدولة، مثلما تمول المدارس والمستشفيات، فالتمويل العمومي هو لخدمة عامة لا أكثر ولا اقل.
أما الأصل الثاني للتمويل فهو المجتمع المحلي (أي المنخرطون والمتبرعون من الرأس مال الوطني) ضمن التعويل على قيم التطوع والمشاركة الوطنية، بعكس التمويل الخارجي الذي هو هدم للروح الجماعية التي هي دعامة مجتمعاتنا ونسيجها القيمي والروحي، وهي نفس القيم التي كانت محركا لمقاومة الاستعمار والنضال السياسي من أجل التحرر والديمقراطية وحقوق الإنسان.
قد نتفهم أن تتبرع جهة دولية إلى جمعية الحراك بكراس لذوي الإعاقة أو بأجهزة سمع لجمعية فاقدي السمع أو بأجهزة حاسوب وطابعات بلغة بريل لفاقدي البصر، قد نفهم ونتفهم السماح بتبرعات -تحت أنظار وموافقة أجهزة الدولة- للجمعيات التي تمارس دوراً إنسانياً وتقدم خدمات لذوي الإعاقات او لفاقدي السند، لكن أن تقدم الجهات الأجنبية (بعضها مجرد ستار لأجهزة مخابرات أجنبية مركبة ومتداخلة ومعقدة الحركة والعمل) فتلك غفلة منا وسوء تقدير وتدبير.
الأصل في الأمور انه وعندما ترخص الدولة لجمعية ما يجب أن يكون مع الترخيص استعداد الدولة لتمويل نشاطها أو تثبت الجمعية أنها قادرة على توفير الموارد المالية الوطنية المشروعة لتمويل هذا النشاط، ولا يعقل أن تسمح أي دولة تحافظ على أمنها وعلى استقرارها وتقطع الطريق أمام عمل القوى الخارجية على ضرب هذا الأمن أو شق صفها الوطني بأي تمويل أجنبي مهما كان نوعه، وان يقتصر هذا التمويل على الجانب الإنساني وحده ضمن أفق التضامن بين بني البشر وتحت رقابة الدولة الوطنية.
إن التمويل الدولي -في اتجاهه الأغلب- أصبح أقرب آلية للتجسس تهدف إلى تتبع مواقف الفاعلين داخل الدول من سياسات الدول الأوروبية، ذلك أن أهداف الممولين الأجانب -وإن كانت تتقاطع مع أهداف المنظمات المحلية في بعض الأحيان- تنطوي على مخاطر كبيرة، من أهمها استغلال الممولين للأنشطة لتتبع تطور الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدول، واستغلالها اقتصاديا وسياسيا وبشكل يضر بالمصلحة الوطنية في الغالب الأعم، ولذلك لا يمكن ولا يعقل ان يمول الخارج الداخل -باستثناء ما يتعلق بالبعد التضامني الإنساني- دون أن يحقق الخارج من وراء ذلك اختراقا للبلاد، ودون أن يكون له تأثير مباشر أو غير مباشر على التوجهات داخل هذا البلد أو ذلك، ودون تحقيق مصلحة أجنبية أكيدة مهما كانت ملتبسة ومغطاة بضروب الزينة والتغليف.
وان تتعود المنظمات الأهلية المحلية على هذا النوع من التمويل الأجنبي السخي والمشبوه -بما في ذلك تمويل السفرات والتأشيرات والإقامات بدرجة سائح متجول في العواصم العالمية، بالإضافة إلى المكرمات والمنح الدراسية وغيرها- فذلك ترويض لها على خدمة المصالح الأجنبية تحت عناوين براقة. بل الأخطر من ذلك أن عدداً مهماً من منظمات المجتمع المدني عندنا لم تعد تؤطر المواطنين في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان استناداً إلى قواها الداخلية الوطنية ولا إلى بناء القدرات الوطنية في هذا المجال، بل أصبحت تؤطرهم في كيفية الحصول عن التمويل الأجنبي وجلب المال والامتيازات والسفرات؛ مما حول المجتمع المدني من قوة وطنية نقدية إلى إطار لصرف الأموال الأجنبية، ويكفي هنا ان نلاحظ جحافل «الحقوقيين» وهم يتجولون عبر العالم على حساب التمويل الأجنبي، دون الحاجة هنا إلى أية استنتاجات بهذا الخصوص.
إن التمويل الأجنبي في أغلب اتجاهاته -بما في ذلك تمويل الأنشطة الحكومية - ينطوي على مخاطر استراتيجية، لأنه في الغالب مشروط ويرتبط بأجندات لا يمكن في أغلب الأحيان أن تكون خيرة أو لله في سبيل الله، هذا شأن التمويل الأجنبي في جانبه الرسمي المعلن، فما بالك بالتمويل الأجنبي الملتبس المتخفي في شكل عطايا وهدايا وتذاكر و»فوتشرات» إقامة مفتوحة أفراد أو جماعات محسوبين على مؤسسات المجتمع المدني!!
إن تمويل مؤسسات المجتمع المدني أمر ضروري وحيوي، لأجل تطور الحياة الديمقراطية وضمان حقوق الإنسان وإشراك المجتمع في الرقابة والمساءلة، بل يجب أن نطالب بتعزيز هذا التمويل وزيادته، ولكنه يجب أن يظل واجباً على الدولة، تتحمله المجموعة الوطنية دون غيرها.
همسة إلى النواب..
همسة أخيرة نهمس بها إلى السادة النواب، فبدلاً من التنديد المستمر والتصريحات الغاضبة من هذا التمويل الأجنبي المشبوه، لماذا لا يعملون -وهم ذوو الاختصاص الأصلي في الموضوع- على مراجعة التشريعات التي تسمح بمثل هذا التمويل، وأن يرفضوا في المستقبل تمرير أي تشريع يسمع بالتمويل الأجنبي من خارج الفضاء الوطني.
{{ article.visit_count }}
970x90
{{ article.article_title }}
970x90