رحل عن دنيانا عميد الصحافيين غسان تويني، وهو اللبناني الذي لم يكن لينساق وراء الانتماءات الضيقة، بل أخذ الوطن مركزاً لكل همومه. ومن رآه عن قرب، أو سمعه وهو يتحدث أو يلقي شهادةً بأحد أصدقائه على “اليوتيوب” سيجد أن هذه الشخصية استثنائية بإنسانيتها. في كثيرٍ من الأحايين لا يمسك دمعته، وبخاصةٍ حين يتذكر أصدقاءه الذين رحلوا مثل الرئيس الراحل رفيق الحريري. لا يستطيع أن يمسك بدموعه وهي تنساب على خده. عاش حياةٍ مأساوية بكل معنى الكلمة، إذ فقد طفلته ثم زوجته ثم ابنه مكرم ثم اغتيل ابنه جبران، من العسير على الإنسان أن يدفن أبناءه قبل أن يرحل، بقي عزاءه بأبناء ابنه جبران وأمّن حفيدته النائبة نايلة تويني على “النهار”، بل على إرث العائلة كله، لم تتدخل مآسيه في حياته أبداً، إلا بعد اغتيال ابنه جبران إذ بقي منزوياً إلا قليلاً عن الناس واختار عزلةً عن الضوضاء وبقي ينسّق كتبه وما بيده من أوراق.
بقي غسان قلب لبنان النابض. كان وسيطاً يوثق به، فهو ليس متلوناً، وعهوده لا تلغيها الأموال، وحين يعد ينفّذ. وجهوده في حماية لبنان من إسرائيل كانت واضحة، استطاع أن يكون مقاوماً من خلال عمله الدبلوماسي وأن يكون عرّاب القرار 425 الصادر عن مجلس الأمن الدولي في 1978 والذي دعا إسرائيل إلى الانسحاب من لبنان. هكذا كانت جهوده المبذولة بكل صبرٍ وإخلاص. ومواقفه الإنسانية كثيرة، يكفي أنه مع رفيق الحريري أدخلوا الأغذية والأطعمة إلى صيدا حين كانت محتلة، وهي قصة لم يعلم عنها أحد إلا بعد رحيل الحريري حينها رواها غسان تويني بصوتٍ حزين، حيث أدخل غسان تويني المعونات التي جهّزها الحريري واضعاً عليها أعلام الأمم المتحدة، في مساعدةٍ ضرورية واستثنائية لصيدا أيام الاحتلال، يعمل العمل وينساه، هذا هو غسان تويني الإنسان.
بقيت صحيفة “النهار” خلال مائة سنة محافظة على مهنيتها، ومن بين من جددها غسان تويني، والذي كتب آلاف الافتتاحيات، وكان ينظر إلى ما يكتبه على أنه مؤشر ومؤثر بنفس الوقت، وذلك لقربه من صناع القرار وقدرته على شرح الحالات السياسية العربية. جمع غسان بين الليبرالية وبين الانتماء العربي المفتوح، لم يكن قومياً بالأسلوب المغلق، ولا على الطريقة الأيديولوجية؛ بل كان منتمياً إلى عروبةٍ منفتحة وفي توجهه السياسي والحياتي كان ليبرالياً فذاً لا يمكنه أن يتناقض مع ما يطرحه. وليبرالية غسان تويني واضحة من معارضته للنظام الطائفي في لبنان ومطالبته بعلمانية ترقى بلبنان ديمقراطياً ليكون بمصاف الدول المتقدمة وبخاصةٍ أن لبنان لديها مقدرات وخيرات كثيرة من السياحة إلى الزراعة إلى الفنون والثقافة التي تستطيع أن تحولها إلى منتج يغني اقتصادياً.
كان ينادي بلبنان المستقل لكن دون رشاشات وإنما بالقلم، جمعته مع ابنه جبران المشاركة بمسيرات مطالبة السوريين بالرحيل من لبنان، وكان يشير بقلمه. غسان تويني قاوم السوريين بقلمه الحر وبصحيفته بالحبر والورق، لم يعرف السلاح طريقاً إليه أو إلى بيته. لقد أغنى غسان الساحة اللبنانية المفتقرة إلى الليبراليين المؤثرين بحجم تأثيره، بقي ليبرالياً واضحاً مع السياسيين ينتقدهم ويعلمهم أوجه قصورهم. صحيح أنه يتحالف بين فترةٍ وأخرى مع هذا الفريق أو ذاك، لكنه بالمحصلة النهائية يستقل برأيه، ولم يكن حليفاً لما فيه شر للبنان، بل كان مع لبنان المزدهر، والمدني، والليبرالي.
ليبراليته جعلته يعرف أن ما خسره مع أنه كثير أن لديه ما يدفعه إلى التفاؤل، سيبقى فجر “النهار” ساطعاً وسنواته التي ربت على الثمانين ستكون حاضرةً في كل حرفٍ في جريدة “النهار”، وسيحضر طيف غسان تويني كلما شعر لبنان أنه محتاج إلى اعتدال غسان وذكائه وحنكته في إدارة الأمور والأزمات.