أوقفت سيارتي قرب مبنى آيل للسقوط في سوق المحرق -منطقة سوق الذهب- وبحثت حولي عن إشارة تدل على المكان الذي أقصده، وكانت رفيقاتي أجرأ في العبور إلى داخل السوق المظلل، واعتلاء بضع درجات إلى ممر أوسع تبدو عليه ملامح الاهتمام والنظافة، وما هي إلا بضع خطوات وكنا في “زعفران” نتناول وجبة تقليدية مميزة ونشرب الكرك، واسمحوا لي أن اذكر اسمه؛ فأنا لا أعلن عنه تجارياً فهو يعلن عن نفسه، إنما قصدت أن أتحدث عن التجربة التراثية والثقافية التي تمضي إليها وأنت تعبر بوابة المكان إلى الداخل، منظر “المدابس” المغطاة بأرضية زجاجية، الديكور الشعبي والأطباق المحلية ولوحة وضعت بمعرفة وزارة الثقافة تشرح ما هي المدابس وما تاريخها. قررت حينها أني سأخرج غداً عن إطار السياسة الذي بات مزعجاً لكم ولي، وسأكتب عن التراث البحريني وحاجته لاستعادة عافيته، أو بالأصح وعيه، من خلال التجديد والأفكار الجريئة، عندما تحدثت إلى ناريس قمبر مالكة المشروع أخبرتني عن تكامل مشروعها مع رؤية وزارة الثقافة ودعم الوزارة وتوفيرها لهذا الموقع، وكم أسعدني أن يكون هناك تعاون بين جهة رسمية وصاحب مشروع والنتيجة تكون ليست فقط لمصلحة وأهداف الجهتين إنما تصب في النهاية لصالح التراث البحريني الذي طغت عليه موجات من التغريب وتماهى مع الثقافات الخليجية الأخرى -ولو كانت تقاربه بدرجة ما- وعايش تحول المجتمع من داخله إلى خليط من الثقافات واللهجات والعادات نتيجة عملية التجنيس، لدينا اليوم جيل لا يعرف كيف عاش الناس هنا قبل 50 أو 70 سنة، كيف له أن يحتفظ بلهجة وعادات وتراث وهوية أبعد من ذلك ويحافظ على “بحرينيته” مقابل الغزو الثقافي بشتى أشكاله، هذا المكان عينة مما كنا نتمنى أن نراه منذ عقود، لا نرى في البحرين وهي أرخبيل جزر وسط الخليج مطاعم تقدم وجبات بحرية تقليدية على مستوى سياحي ويقصده المواطن العادي مثلما يقصد المطاعم الإيطالية واليابانية وغيرها، لدينا في البحرين مطاعم تقدم قوائم طعام من شتى الدول لكن لو أراد السائح تذوق الأطباق البحرينية فربما حالفه الحظ في تذوق أصناف تقليدية حقيقية وربما لا، وغالباً ستقدم بطريقة وهيئة لا توحي بالطابع البحريني، في “زعفران” ترى الهوية البحرينية وتتنفس عبقها في المكان مع الشاي التقليدي والأطباق الشعبية الخفيفة والتمر والقهوة، حتى مقدم الطعام -الآسيوي- يرتدي الثوب التقليدي ويلف غترة حول رأسه. أعجبتني هذه الجرأة في تحقيق شيء جديد، والجديد هنا هو إحياء القديم وإلقاء طابع وجمالية الماضي على الحداثة لتعزيز الهوية البحرينية في حياتنا اليومية، وهو ليس صعباً ولا مستحيلاً لكنه فكر جديد لن يتبناه سوى رواد تغيير، كل ما عندنا من اهتمام بالتراث كان برامج التلفزيون المهترئة المغبرة التي غيرت منظورنا لموضوع التراث من أساسه 180 درجة، وحفل هنا وحية بية هناك وقليل متبق من مظاهر القرقاعون منتصف رمضان، ثقافتنا غير موجودة في نمط حياتنا، لم أكن أتخيل أن يهتم أي كان بمنح الأحياء والأسواق القديمة ومبانيها وطرقاتها عملية إنعاش بعد كل ما عانته من إهمال. أذكر كيف كان بيت جدي في مدينة الحد ببوابته العملاقة والحوش الشاسع والمبنى الذي يعبر بكل تفاصيله عن فترة جميلة من تاريخ البحرين، حقبة تجارة اللؤلؤ التي لن تتكرر، وهناك مبان أخرى كثيرة مثله كنت أتمنى حقاً وبأسف لو أن الشيخة مي بنت محمد كانت موجودة عندما تم هدمها واحدة تلو الأخرى وتفكيك ذكرياتها وقيمتها التراثية العظيمة وتحويلها إلى لا شيء، كمية هائلة من تراثنا ضاعت بسبب الجهل بقيمتها والسباق المحموم للتعالي بالعمارات والمجمعات وجمع الإيجارات السهلة. المراد أنني أحببت أن أحيي الفكرة والمجهود الذي بذل من صاحبة المشروع، والفكر الذي تحمله الوزيرة مي بنت محمد فيما يتعلق بإحياء معالم التراث البحريني وأشد على يدها لجعله واقعاً يعكس هويتنا في كل مناطق البحرين بلا استثناء، وما نريده حقاً هو مزيد من المبادرات من أصحاب مشاريع مبدعين من أبناء البلد وعاملين في تلك المشاريع من أبناء البلد أيضاً ودعم رسمي حقيقي لهم، إنها معادلة تختلط فيها الاهداف الثقافية والسياحية والاستثمارية وهي ثرية في فوائدها ونتمنى للقائمين عليها كل التوفيق.