هل يحتاج الإنسان إلى الخبز والغذاء أكثر من حاجته إلى الحُكم الرشيد وإلى الديمقراطية؟ وهل يتحقق الجوع أثناء الحُكم الرشيد؟ هل تحقق الديمقراطية إشباعاً غذائياً للإنسان تبعده عن أية مطالبات أخرى؟
إذا كانت معادلة المجتمع الآمن = الخبز + الديمقراطية، فيعني أنها أيضاً = الأمن الغذائي + الحُكم الرشيد؛ وإذا كانت معادلة المجتمع الآمن سياسياً واقتصادياً = المساواة + العدالة + الرفاه، فإن جميع المعادلات هذه تحقق السلام المجتمعي إذا حققت أهدافها الحياتية للإنسان في وطنه.
وهنا نأتي إلى المقارنة بين ضرورة الخبز وبين ضرورة الديمقراطية وأهميتها في حياتنا، إن إشباع الحاجات الأساسية من (طعام ومأوى ولباس) ضرورة ملحة مع باقي الحاجات الحياتية الأخرى، وهذه الحاجات تتحقق في مختلف المجتمعات بنسب متفاوتة وبحسب إمكانات البلدان الاقتصادية والمالية وبحسب نهجها السياسي في إدارة البلاد، ففي البلدان المتقدمة اقتصادياً يحدث أيضاً نقصاً في تلبية هذه الحاجات ويعيش فيها العديد من الفقراء والمشردين، ولكن ليس بالقدر الذي في العديد من البلدان النامية. والديمقراطية أيضاً من ضرورات الحياة الإنسانية، فعلى سبيل المثال لا يمكن أن يُفكر الإنسان بالحرية والديمقراطية وهو جائع؛ وأيضاً تنعدم الطمأنينة الاجتماعية عندما يُغيب الأمن الاقتصادي؛ وإذا كان ذلك صحيحاً فهل أن الديمقراطية والتنمية الاقتصادية متلازمتان لتأسيس مجتمع حضاري؟
يقول الفيلسوف البريطاني برانتراند راسل “على المرء أن يحترم الرأي العام بالمقدار الذي يُبعده عن الجوع والسجن”، هل هذا الرأي يعني أن يستسلم الإنسان للاستبداد إذا كان الرأي العام مخالفاً لرأيه؟ أم أنه يدفع ثمن رأيه جوعاً وسجناً؟ وهل يتجه لإقرار رأيه باستخدام آلية من آليات العنف؟ لكن.. هل يمكن للإنسان أن يقر رأيه ويُمارس حريته في الرأي والتعبير في مجتمع به عنف؟ أم أنه يتفق مع رأي (فولتير) الذي يقول: “كل من ليس حيوياً ومستعداً للمواجهة فهو لا يستحق الحياة وأعتبره في عِداد الموتى”. فإذن ماذا يختار الإنسان الخبز أولاً أم الديمقراطية؟ هل يمكنه أن يشبع بطنه ويروي عطشه ويترك أمر الديمقراطية؟ وهل يستبدل الحرية بما لذ وطاب من الطعام وبمباهج حياة الدنيا؟ أم أنه يفضل الديمقراطية وممارسة الحرية مقابل أقل من حد الكفاية من العيش الاجتماعي؟ كما إن الطعام أحد ضرورات الحياة للإنسان فهو أيضاً وسيلة لمحاولة إنهاء الحياة حين يستعمله السياسيون كورقة ضغط لتحقيق مطالبهم السياسية ونقصد بذلك حالة (الإضراب عن الطعام).
إن الديمقراطية لا تعني فقط انتخابات وصناديق اقتراع ومجالس بلدية ونواب، بل إن الديمقراطية هي أوسع بكثير من ذلك، فهي تعني توفير حد الكفاية من الخبز والماء والكهرباء للمواطنين، تعليم جيد يتوافق مع حاجة السوق الاقتصادية، رعاية صحية للجميع دون استثناء، حرية الرأي والتعبير، تحقيق العدالة، المساواة بين جميع المواطنين في تنفيذ القانون وتكافؤ الفرص الاقتصادية والاجتماعية، بما يُحقق الرفاه الاجتماعي والاقتصادي لجميع المواطنين الذين تتولى الدولة الحفاظ على حياتهم والعناية بهم وعمل يتناسب مع كفاءة وتخصص الإنسان المهني. وإن غياب الديمقراطية يؤدي إلى توسيع فجوة الفقر، ويعمل على تهميش وإقصاء الكثير من المواطنين ولا يتم تحقيق الكثير من تلك الأمور. صحيح أن الإنسان قد يفقد جزءًا من مواطنته وانتمائه إن لم يُشارك في صياغة القرارات الوطنية، أو أنه قد يفقد أي معنى للحياة إذا تم التضييق عليه سياسياً لكنه سيأكل ويعيش، وفي ذات الوقت فإن ليس كل مجتمع حُر وديمقراطي جائع، وليس كل الدول ذات الفائض المالي والانتعاش الاقتصادي حُرة وديمقراطية.
وبالإجابة عن السؤال السابق؛ هل أن الديمقراطية والتنمية الاقتصادية متلازمتان لتأسيس مجتمع حضاري؟ فجوابنا هو أن الغذاء الصحي المناسب يعتبر آلية من آليات تأسيس الدولة المدنية والديمقراطية إحدى آليات سيادة القانون والتعددية السياسية والثقافية، وفي المجتمع المدني يشعر المواطن بمواطنيته ويدفعه إلى الإنتاج الذي يُحقق له ولمجتمعه الرفاهية، وإذا سادت الديمقراطية وتنعم الإنسان بالغذاء الجيد وساد وطنه مناخ ديمقراطي خالٍ من الشوائب فإنه لن يكون عبداً أو ترساً لآلة إنتاج لا تعطيه حقه في الحياة بل سيكون جزءًا لا يتجزأ من المجتمع النظيف. ولكن.. هل يجتمع الغذاء الجيد والديمقراطية الحقيقية في مجتمعٍ ما؟ ذلك سيكون فقط في جمهورية أفلاطون، ولا توجد جنان على الأرض.
وأنت أيها القارئ العزيز.. أيهما أولاً بالنسبة إليك؛ الخبز أم الديمقراطية؟