قد لا أكون مبالغاً إذا قلت إن شعوبنا العربية دون استثناء مسيّسة حتى النخاع، وهذا يعني أن الناس تهتم بالأحداث والقضايا السياسية أكثر بكثيرٍ من اهتمامها بتسيير شؤونها اليومية الملحّة، وتحديد أولوياتها المعيشية، والتفكير في مستقبل أزهى وأسمى لأبنائها وأحفادها.
وضمن هذا السياق، يضرب مجتمعنا البحريني مثلاً ساطعاً على كيفيّة التصاق الناس، خصوصاً البسطاء منهم، بأخبار السياسة والسياسيين، وتتبعهم لها على نحوٍ حثيثٍ ومتواصلٍ، على مواقع التواصل الاجتماعي دون كللٍ أو مللٍ أو تأفّف. ولا أجد نفسي مبتعداً كثيراً عن جادّة الصواب إذا قلت إن النزعة السائدة بين الناس باتجاه تسييس أيّ خبر أو حدث، وذلك من خلال البحث عن “الفاعل” السياسي من خلفه، والتفتيش في دوافع الفعل وتداعياته وتأثيراته، أصبحت بعد الأحداث التي عصفت بالوطن في فبراير من العام الماضي بمثابة الترمومتر الذي من خلاله يستشِّف المرء مدى ارتباط الفرد بواقعه اليومي، ودرجة حماسه لتغييره إلى الأفضل.
ويبدو لي في بعض الأحيان أن اهتمام البحرينيين بالسياسة لا يقِّل عن اهتمام المزارع بانتظار حصاد البذور التي زرعها بعرق جبينه ويقتات منها لقمة عيشه، أو صاحب ورقة اليانصيب بنتائج السحب المقبل الذي قد يجعل منه بضربة حظ مليونيراً، ويقلب حياته المزرية رأساً على عقب.
فما أن يُطرح موضوع ذو علاقة من قريبٍ أو بعيدٍ بالشأن السياسي، وفي أيّ مقهى أو سوق أو تجمّع شعبي، حتى تجد القاصي والداني يدلي فيه بدلوه الخاص، ويفتح للجمهور آفاقاً للمجادلة والنقاش لم تعهدها من قبل، وتخال نفسك وكأنك نكأت جُرحاً قديماً استثار المشاعر والعواطف الجيّاشة، فترى الجميع منشّدين إلى الحوار الدائر لا لأن حصيلته سوف تقرِّر بالضرورة مصائرهم الحائرة، بل لأنه ربما يزرع فيهم الأمل بأنهم يستطيعون تغيير واقعهم اليومي من خلال السجالات والمناظرات الثنائية والجماعية التي لا تشفي الغليل فحسب، بل تشعر الفرد بأنه شريك أساسي في صنع الغد الأجمل، ولا خيار أمامه سوى أن يُثبت للجميع أنه طرف مهم في صنع القرار، لذا يجب أن يُؤخذ صوتُه في الحسبان عند أي تغييرٍ؛ لكن الحياة ليست كلها سياسة، فهناك مجالات أخرى يفترض للمرء أن ينخرط فيها، ويهتم لأمرها، فهناك الثقافة مثلاً، وليت كل الناس يدركون أهميتها في تقدّم المجتمع ويتحاورون أحياناً بشأنها!
{{ article.visit_count }}
970x90
{{ article.article_title }}
970x90