اليوم تبدأ الملامح شبه النهائية لنتائج الانتخابات المصرية في التبلور موحية باسم الرئيس الفائز بين المتنافسين؛ ممثل جماعة الإخوان المسلمين محمد مرسي، وابن المؤسسة العسكرية المصرية، وآخر رئيس للوزراء في عهد مبارك أنور شفيق. بعد مارثون انتخابي معقد وشديد الاحتقان تداخلت فيه القضايا الدستورية، بالخلافات السياسية، التي تمحورت حول قانون العزل السياسي، وشرعية مجلس الشعب.

ليس هناك رفض لارتفاع درجة حرارة الساحة الانتخابية، كما إنه ليس هناك خلاف حول حق المرشحين الكامل، ومن خلفه كل قواه السياسية، في أن يشحذ كل أسلحته المدنية المتحضرة من أجل كسب السباق، فهذه سنة من سنن العملية الانتخابية، تمارسها بمستوى حضاري وراق كل المجتمعات التي طورت نظاماً انتخابياً رئاسياً، أو برلمانياً بلغ درجة من النضج، تؤهله لحصر الخلافات في إطارها المدني، بعيداً عن أية شوائب طائفية، أو صدامات قبلية، كما شهدناه في العديد من الدول العربية، قبل وبعد ما يعرف باسم “الربيع العربي”.

ونبدأ بسرد تاريخي، لحوادث مشابهة عرفتها دول عربية أخرى، يثير في قلوبنا المخاوف، وينزع منها كل عناصر الاستقرار. ففي لبنان، وهو المثال الأكثر وضوحاً، حيث لاتزال ذيول الحرب الأهلية التي اندلعت في منتصف السبعينات تلقي بظلالها على المشهد السياسي هناك. فرغم الانسحاب الفلسطيني في أغسطس 1982، لكن الصراع الفلسطيني اللبناني، الذي بات يستمد جذوره، في حقيقة الأمر، اليوم من خلفيات طائفية، تعبر عن نفسها بين الحين والآخر في مظاهر صدامات عسكرية مختلفة، كان آخرها قبل يومين، عندما “قتل فلسطيني وأصيب ثلاثة آخرون برصاص الجيش اللبناني داخل مخيم نهر البارد في شمال لبنان الجمعة إثر إشكال فردي تطور إلى قطع طرقات ورشق الجيش بالحجارة”، يعكس في جوهره، وليس في أشكاله الخارجية، غياب الدولة المدنية التي تبسط نفوذها على أراضيها، وتنظم الصراعات السياسية بين قوى مجتمعها المختلفة، بما فيها غير المواطنة، كما هو الحال بالنسبة للفلسطينيين في لبنان، عبر قنوات مدنية طورتها عبر أجيال من العمل المضني المناهض لكل ما من شأنه تغييب قوانين المواطنة، واستحضار أخرى غيرها، قبلية كانت أم طائفية.

وفي سوريا نكتفي بنقل ما قاله رئيس عمليات حفظ السلام بالأمم المتحدة ايرفيه لادسو، الذي حذر من أن “الصراع الذي بدأ قبل 15 شهراً في سوريا تحول إلى حرب أهلية كاملة تحاول الحكومة فيها استعادة مساحات واسعة من المدن التي سيطرت عليها المعارضة”. لا تغير من هذه الحقيقة المرة محاولات وزارة الخارجية السورية نفي ذلك، ودعوة العالم إلى القبول بأن ما تقوم به من مجازر، إنما هو، على حد قولها “حرب ضد الجماعات المسلحة التي تختار الإرهاب”. حتى ما توصف بالحرب الأهلية، هي ليست في جوهرها، سوى صراعات مذهبية نجحت في تغييب الأهداف الوطنية، وزرعت مكانها تلك الطائفية.

ومن سوريا ننتقل إلى ليبيا، التي لم تعرف الهدوء، وهو أمر يحز في النفس، منذ مقتل القذافي وسقوط نظامه، وتحولت الصراعات السياسية فيما بين فئاتها المختلفة، كما تجمع، المؤسسات الإعلامية التي تتابع الأحداث هناك، إلى شكل من أشكال “الصراعات القبلية المسلحة، وذلك بين القبائل التي كانت موالية للقذافي، والقبائل التي دعمت الثورة فيما لم ينجح المجلس الانتقالي الوطني في تكريس وضع قوات الجيش والشرطة الجديدين اللتين شكلهما الثوار، حتى تتحرك تلك القوات كفصيل واحد”.

ولا تختلف معالم الصورة كثيراً في بغداد، التي لاتزال تلعق جراح انفجاراتها المتكررة التي أودى الأخير منها وقبل أيام فقط، بــ«عشرات الضحايا بين قتيل وجريح في هجمات منسقة في بغداد وعدد من المحافظات بسيارات ملغومة وعبوات ناسفة، في الوقت الذي تستعد فيه الكاظمية لاستقبال أعداد غفيرة من الزائرين لإحياء ذكرى وفاة الإمام موسى الكاظم”. تلك الهجمات، هي حلقات متكاملة في سلسلة أخرى عرفتها العراق منذ سقوط نظام صدام حسين، عكست في جوهرها صراعاً طائفياً متأججاً، بين مختلف الأديان حيناً، وبين المذاهب المتعددة في إطار أحد الأديان أحياناً أخرى.

تزداد الصورة رداءة وتشوهاً عندما نحط الرحال في اليمن الذي لم يعد، وهو أمر يؤسف له، سعيداً، منذ إزاحة رئيسه السابق علي صالح. فتصريحات المسؤولين اليمنيين عن استعادة “مدينة شقرة في جنوب البلاد بعد انسحاب مقاتلي تنظيم القاعدة منها، آخر معقل لعناصر القاعدة في محافظة أبين جنوبي اليمن، بعد فرار المئات من مسلحي القاعدة منها”. يعكس هو الآخر مجموعة متشابكة من الأسباب المبطنة التي تحمل في أحشائها أجنة صراعات مذهبية، و«جنوبية شمالية” خبيثة، يتوقع لها أن تتطور كي تأخذ مجرى قبلياً من الصعب التكهن بالنهايات المظلمة التي تتجه نحوها، ومعها اليمن، تلك الصدامات المسلحة الآخذة في الاتساع الجغرافي والتصعيد العملياتي.

الأمر يتكرر، وإن كان بشكل مخفف في تونس حيث أعلن وزير الداخلية التونسي علي العريض، مؤخراً “أن الوضع الأمني في البلاد تحت السيطرة، مضيفاً أن جهات عدة تقف وراء أعمال العنف وليس السلفيون وحدهم”. الخشية هنا أن تكون تلك “الجهات العدة الأخرى”، إنما هي تكتلات غير مدنية تعبر عن مصالح قوى قبلية وربما مناطقية، تجرف مسار الإصلاحات من مجراها الصحيح، وتزج بتونس في أتون حرب أخرى تتداخل فيها تلك المصالح، وتتضارب فيما بين المستفيدين منها، منذرة بنهايات أخرى مختلفة، لن توصل البلاد إلى ذلك المجتمع المدني المتحضر الذي من أجله أحرق محمد البوعزيزي نفسه.

الخشية على مصر من احتمالات اندلاع شكل من أشكال الصدامات العنيفة قائمة، بغض النظر عن من هو الفائز من المرشحين. ففيما لو تغلب مرسي على شفيق، فربما تجد الكنيسة نفسها، أو هكذا سيوحى لها، أنها أمام حروب صليبية جديدة، فتبدأ دورة عنف وقودها المسلمون والمسيحيون، هذا إذا وضعنا جانباً احتمال اندلاع عنف داخلي ضمن الكتلة الإسلامية، وهو بركان خامد بشكل مؤقت اليوم، لكنه قابل للانفجار بين جماعة الإخوان والسلفيين في مراحل لاحقة. بالقدر ذاته، لا تبشر النتائج بأي خير، فيما لو نجحت كتلة أحمد شفيق، مدعومة بآلة الدولة المصرية، التي سوف تكشر القوى المستفيدة من فسادها عن أنيابها من أجل الدفاع عن تلك المصالح، التي يمكن أن يهددها اندلاع صدامات طائفية مفتعلة بين الهلال والصليب، تغذيها قوى لها مصلحة في تصوير تلك النتائج، على أنها انتصار للكنيسة على حساب المسجد.

هذه الاحتمالات، وجميعها تقودنا إلى نهاية مؤلمة واحدة، تحذر من اندلاع صدامات عنيفة تقوم على أسس طائفية، دون استثناء أخرى مذهبية، تخيف من قلوبهم على مصر، وتجعلهم يمسكون أنفاسهم انتظاراً لرؤية أي اتجاه سيختاره قطار تغيير ثورة 25 يناير 2011، آملين أن تكون محطته النهائية مجتمعاً مدنياً متحضراً، بعيداً عن الصدامات الطائفية، وطارداً للخلافات المذهبية التي من العار أن تجد لنفسها مقعداً وثيراً في بلادنا العربية في القرن 21