يرى الفيلسوف الروسي ديمتري تيلي أن البعض من الناس يتصوّرون أن حياتهم يمكن أن تكون ذات مغزى إذا كانت مترعةً بالحب، حيث تفيد الأسطورة بأن الشخص الذي وجد الحب الحقيقي هو وحده الذي سيصل إلى مرتبة الخلود، وهنا ينبثق السؤال: ما مغزى الحب ذاته؟. إن انشغال الإنسان بالتفكير بشأن موضوع الحب يقوده موضوعياً إلى التفكير في كيفية تحقيق اللذة الجسدية، لكن الحب في المقابل هو أسطع تعبير عن الإبداع الحقيقي، فالحب قرين الإبداع، والسؤال: ما مغزى الإبداع؟ إن الإنسان يلاقي ضروباً من العذاب في سعيه لتجسيد الإبداع، لكنه سرعان ما يفطن إلى حقيقة أن الثقافة هي ليست مجرّد إنقاذ لهويّته أو شخصيته المتميزة، بل نكبة لها. ففي ذاكرة الفنان التشكيلي مثلاً توجد فكرة “العالم الجديد” أو “عالم المستقبل”، لكنه عاجز عن تجسيد هذا العالم على أرض الواقع الملموس، ناهيك أن عذابات الإنسان المبدع لا تتحول، في نهاية المطاف، إلى بيئةٍ أو كينونةٍ جديدةٍ بل إلى كتبٍ أو رواياتٍ أو سيمفونياتٍ رائعة تُطرب آذان الملايين، مثلما هو الحال مع الموسيقار الألماني الشهير لودفيج فان بيتهوفن. إن الحب والإبداع اللذين ينبعان من واقع إدراك الإنسان لحتميّة فنائه، يعبِّران، بمنظور تيلي، عن حيوية الإنسان ونضوجه، فالعاشق والمبدع لا يُبصِران، لأن كلاً منهما منغمس حتى النخاع في عالمه الفريد، ولكن حتى لو لقي الإنسان الحب المنشود، وعاش مع المحبوب عمراً مديداً في سعادةٍ وحبورٍ، إلا أنه سينظر في خريف العمر إلى ما حصده في مشوار حياته الصاخبة بعيونٍ أخرى، ويبدأ في توجيه الأسئلة المؤرقة لنفسه: لماذا صرتُ مبدعاً في هذا التخصّص دون غيره؟ لماذا أصبحت هذه الإنسانة، على وجه التحديد، شريكةً لحياتي؟ لماذا لم يلجأ أي من أبنائي إلى اختيار مهنتي، رغم أنها تعتبر مهنةً راقيةً ومربحةً في المجتمع؟ إن الحديث هنا يدور عن منظومة القيم، وأيّ منها كانت القيمة الأساسية لحياته. ولو سُئل الفرد عمّا تمثله القيم الروحية في حياته لأجاب: إنها بالنسبة له الخير، والجمال، والحقيقة، فإذا جرّب الحب فعلاً، فقد عذّبه السؤال حول ماهية الخير، وإذا كان في الوقت نفسه مبدعاً، فقد تفكّر في مفهوم الجمال، أما الحقيقة فهي موضوع التفكير المفضّل لدى الفلاسفة، وهكذا عُدنا من حيث بدأنا!