بمناسبة رحيل الفيلسوف روجيه جارودي؛ أعادت مدونة “وجهات نظر” إلى ذاكرتنا تفاصيل اللقاء الحواري المعمق الذي أجراه الأستاذ مصطفى كامل في العام 2000 مع أبرز مفكري المائة سنة الأخيرة، وأظهر اللقاء، بأسئلته الذكية، ماهية المشروع الذي دعا إليه الفيلسوف روجيه جارودي في مقارعة وحشية الولايات المتحدة الأمريكية، مشروع إقامة مؤتمر باندونغ جديد، باندونغ اقتصادي بالدرجة الأساس من دون إهمال الجوانب السياسية، الذي أوجب فيه الشروع في تنظيم تجمع يضم دول آسيا وأفريقيا من أجل خلق عملة جديدة لمواجهة هيمنة الدولار الأمريكي على أسواق العالم، وعد دعوة العراق، آنذاك، لاستخدام اليورو شرخاً في الجدار المضروب حول الدول الآسيوية والأفريقية، ومن أجل الوقوف بوجه إمبريالية واشنطن يتعين توسيع هذا الشرخ، بتوجيه الضربات إلى الأماكن الرخوة وبهذا يمكن التصدي لهيمنة الدولار الاستعماري.

منذ كتاباته الفلسفية المبكرة كان جارودي فيلسوفاً كونياً، تبنى قضية الإنسان في مراحل حياته كلها لم يتخل عن واجبه الأخلاقي في الدفاع عن حق الشعوب في الحرية والعدالة وعن حقها في الحياة الهانئة والكريمة، وبهذا المنهج الإنساني وقف بصدق وصلابة إلى جوار نضالات الشعوب فانتصر للثورة الجزائرية، وناهض السياسة الفرنسية في حلقاتها الاستعمارية، وبالحرارة النضالية نفسها دافع عن قضايا الحرية والكرامة في آسيا وأفريقيا، ودون شهادته على عصره.

في كتابه الرائع “واقعية بلا ضفاف” مرآة بانورامية، تمتزج فيها الأبستمولوجيا بالأيدولوجيا، والفلسفة بالسياسة، تعكس زواياها ماهية التحولات الفكرية في حياة جارودي الغنية بالرؤى المتفجرة والمواقف الشجاعة، لرجل بدأ حياته مناضلاً أممياً في صفوف الحزب الشيوعي الفرنسي، لينتقل من الجدلية التاريخية وقوانينها إلى التأملات المتعالية، فيلج عالم التصوف الإسلامي بصحبة محي الدين بن عربي مغتبطاً بأذواقه ومواجيده متماهياً في أحواله ومقاماته، ويقدم على اعتناق الإسلام بعد أن وقف على ينابيعه الأولى.

يعبر كتابه “واقعية بلا ضفاف” عن شخصيته الكونية، وعن تطوره الفكري، ورؤيته الفكرية، وهو يحاول أن يقيم حواراً بين الضفتين المتباعدتين: الحركة والسكون، الطبيعة والميتافيزياء، النسبي والمتعالي، المرئي والغيبي، الجزئي والكلي، الأرض والسماء.

ومن طريف ما جاء في كتابه، هو إعجابه الشديد بحضارة وادي الرافدين، وضرب مثالاً (الإنسان الآشوري المجنح) بوصفه تعبيراً عن ثنائية الحاضر الواقع القائم وعصر المستقبل، وأن عراقيي وادي الرافدين استبقوا العالم في التبشير بعصر الفضاء.

وفى روايته “مَنْ أكون في اعتقادكم؟” يتحدث “جارودي” عن الجيل الضائع بعد الحرب العالمية الثانية، الذي خرج من غابة الدخان والموت بائساً مكتئباً، يضع أمامنا لوحة المقاربات الفاصلة بين ثنائية الوجود والعدم، ليقرر في النهاية انتصار الحياة، وأن بطل روايته الذي ولد في منتصف القرن العشرين سيكون رائعاً، وأنه يمثل الجيل الواعد الذي سيكون موضع إبهار لجارودي شخصياً..

وكانت مذبحة صابرا وشاتيلا في لبنان عام 1982م، وضعت أمام جارودي الفصل الأخير بينه وبين الصهيونية فأقدم بشجاعة متناهية على نشر مقالة في صحيفة (لوموند) تحت عنوان “معنى العدوان الإسرائيلي بعد مجازر لبنان”، تضمنت بياناً وقعه مع “جارودي” الأب ميشيل لولون والقس إيتان ماتيو، وكان هذا البيان بداية صدام “جارودي” مع المنظمات الصهيونية التي شنت حملة ضده في فرنسا والعالم، ففي العام 1998م، حكمت محكمة فرنسية على “جارودي” بتهمة التشكيك في محرقة اليهود في كتابه “الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل”، إذ شكك في الأرقام الشائعة حول إبادة يهود أوروبا في غرف الغاز على أيدي النازيين، وألهمته قراءاته المعمقة ومنهجه النقدي للتراث اليهودي وللأدبيات الدينية التوراة والتلمود تأليف كتاب “الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية”، عرضها جارودي إجمالاً على النحو الآتي: الأرض الموعودة لليهود في فلسطين، اليهود شعب الله المختار، أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، المحرقة النازية Holocaust ، العقيدة اليهودية والصهيونية السياسية، والمسافة بين الاثنتين، لكن جارودي في عرضه لهذه الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية – ولدولة إسرائيل، لم يؤلف كتاباً بالمعنى التقليدي، وإنما حرص على أن يجعل من الوقائع نسيجاً للحقائق، قابلة للنظر وقابلة للفحص وقابلة لاختبار التماسك والمتانة.

وفى كتاب “الإسلام دين المستقبل” يقول جارودي عن شمولية الإسلام: “أظهر الإسلام شمولية كبرى عن استيعابه لسائر الشعوب ذات الديانات المختلفة، فقد كان أكثر الأديان شمولية في استقباله للناس الذين يؤمنون بالتوحيد وكان في قبوله لأتباع هذه الديانات في داره منفتحاً على ثقافاتهم وحضاراتهم. والمثير للدهشة أنه في إطار توجهات الإسلام استطاع العرب، آنذاك، ليس فقط إعطاء إمكانية تعايش لهذه الحضارات، بل أيضاً إعطاء زخم قوى للإيمان الجديد: الإسلام”.

تحية إلى روح فيلسوف الإنسان والحرية، ولعل شعبنا العربي في فلسطين يبادر إلى إقامة نصب يليق بمقام جارودي اعترافاً وتقديراً لدوره المعرفي والنضالي في فضح الأساطير الصهيونية وفي انتصاره للحقيقة.