رحم الله محمود درويش حين أطلق دعوته الشهيرة “حاصر حصارك”! ففيما كانت دولة الاحتلال الصهيوني تشن حربها “الفولاذية” على قطاع غزة في يناير 2009، انطلقت الحملة الشعبية لمقاطعة البضائع الإسرائيلية فاتحة بوابة جديدة للنضال يمكن لأي فلسطيني المساهمة فيها لإلحاق الضرر والخسارة بدولة الاحتلال بحرمانها من جزء من الأموال التي تستخدمها في تمويل حروبها. وسرعان ما تحولت المبادرة الفلسطينية إلى مقاطعة دولية متعددة الجوانب تحاصر “إسرائيل” عبر الدعم الذي قدمته حركات التضامن العالمية مع الشعب الفلسطيني. لقد حمل النجاح المستمر لهذه الحملة أمورا كثيرة إيجابية، على رأسها أن المقاطعة تصبح، مع مرور الوقت، جزءاً من الثقافة الوطنية الرافضة للتعايش والتطبيع مع المحتلين، فضلا عن تعزيز الاقتصاد الوطني الفلسطيني وتسريع خلعه ثوب التبعية للاقتصاد الإسرائيلي من خلال تأمين الحماية للمنتج الوطني ومنافسته للاقتصاد الإسرائيلي وهو الأمر الذي سيسمح باستيعاب مزيد من العاطلين عن العمل أو العاملين في المستعمرات “المستوطنات”. ولتأكيد هذا الأثر، وعلى ذمة الصحافة الإسرائيلية، فإن حوالي 17 مصنعاً في المستعمرات قد جرى إغلاقها وان عشرات أرباب العمل أوشكوا على الإفلاس. هذا، مع ملاحظة أن الصحافة الإسرائيلية توقفت، منذ منتصف 2011، عن نشر تقارير آثار المقاطعة الفلسطينية على الاقتصاد الإسرائيلي، مع تزايد التهديدات باتخاذ إجراءات عقابية ضد الفلسطينيين إن لم يوقفوا الحملة. بالمقابل، وعلى الصعيد الخارجي، وصلت رسالة الحملة إلى العديد من المؤسسات والجمعيات المناصرة للقضية الفلسطينية، وخصوصا في دول أوروبا، مسهمة بفضح شركات التسويق الإسرائيلية التي تقوم بترويج منتجات “المستوطنات” في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، حيث طالبت جمعيات ولجان التضامن بمحاصرة هذه الشركات لمنعها من غزو الأسواق الخارجية بمنتجات “المستوطنات”. فمن جانب، أعلنت جنوب افريقيا عن حظر استيراد السلع الإسرائيلية التي أنتجت في “المستوطنات” بصفتها غير شرعية ولا قانونية، بالتزامن مع تحرك أوروبي مشابه قرر مؤخرا تشديد الرقابة على اتفاقية التجارة مع سلطات الاحتلال. وكذلك رفض وزير الخارجية الدانمركي (فيلي سوندال) “تهريب وتصدير” بضائع المستعمرات “إلى أوروبا ضمن اتفاقية التجارة الموقعة مع الجانب الإسرائيلي لأنها لم تكن جزءا منها، ويجب تضييق الخناق عليها لعدم قانونيتها”. هذا، فضلا عن امتداد المقاطعة إلى المجالات الأكاديمية والعلمية والبحثية، حيث قاطعت العديد من الجامعات الغربية أكاديميين إسرائيليين، تساوقاً مع مقاطعة ثقافية لأدباء وكتاب من داخل ما يسمى “الخط الأخضر”! والآن، تؤكد أدبيات سياسية إسرائيلية متزايدة أن هناك قلقا متعاظما داخل الكيان الصهيوني إزاء حملات المقاطعة التي عمقت عزلته وشكلت ضغطاً عليه، مما دفعه إلى حراك دبلوماسي مضاد لتحسين صورته أمام المجتمع الدولي. فقد أصدرت وزارة الصناعة والتجارة الإسرائيلية تحذيرا للتجار من أجل عدم وضع أي علامات تدل على البضائع التي يتم إنتاجها في “المستوطنات” وتوحيد الشعار ليكون “صنع في إسرائيل” بهدف التهرب من حملات المقاطعة. وأشارت صحيفة “الإندبندنت” البريطانية إلى أن هذا القرار الإسرائيلي الجديد يمكن أن يكون “جريمة بموجب القانون الأوروبي والمحلي لأنه ينطوي على تضليل متعمد للمستهلك”. ويعترف معظم المسؤولين في دولة الاحتلال بأن الحملة التي تشنها منظمات الرأي العام الأوروبية والعالمية بدأت تزعزع “شرعية” نظام دولة الاحتلال وتقوض المزاعم الصهيونية في ساحات كثيرة كانت إسرائيل تتمتع فيها بالتعاطف والتأييد. إن للمقاطعة تأثيرا مهما: فهي من جهة جعلت الإسرائيلي يشعر بأنه معزول وضعيف، ومن جهة ثانية منحت المواطن الفلسطيني الشعور بالمساهمة والانتماء والمشاركة في النضال، خاصة وأن جهود النشطاء القائمين على التضامن والتأييد الدولي الشعبي الواسع لنصرة القضية الفلسطينية وفضح الانتهاكات الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني، تتسع يوميا معبرة عن نفسها بالتظاهرات والاحتجاجات وتوسيع حيز المقاطعة لتشمل كافة المجالات عقابا لإسرائيل على الجرائم التي ترتكبها بحق الشعب الفلسطيني وتضييق الخناق على التعامل معها لردعها عن ممارساتها غير القانونية وغير الإنسانية ضد الشعب الفلسطيني. ونختم بما قاله (جيمس دورسي) الباحث اليهودي الأمريكي عن “تزايد عزلة إسرائيل التي أظهرت فقدانها لأي منظور ذكي ولامع في مجال العلاقات العامة”. إذاً، ثمة حقيقة واضحة الملامح: إسرائيل تتجه فعلا إلى مزيد من العزلة الدولية، نتيجة مقارفاتها، وبفضل ازدياد الوعي الدولي، وبجهود النشطاء الفلسطينيين في الوطن المحتل، علاوة على جهود نشطاء حركة التضامن العالمية مع الشعب الفلسطيني بحيث أصبح هذا النهج هو أحد الطرائق الفاعلة لمزيد من الحصار على الدولة الصهيونية. ^ عن «الرأي» الأردنية