لم يعد خافياً انحطاط مستوى الخطاب السياسي وتدني مستوى التخاطب السياسي والإعلامي العام، المعارض وغير المعارض، وهو تدنٍ أخلاقي وفكري وسياسي في ذات الوقت.
كان السياسيون في السابق يعبرون عن أفكارهم وتوجهاتهم ومواقفهم من خلال ما يصدر عن أحزابهم من بيانات رسمية، أو من خلال البرامج الانتخابية المعلنة، بما تحمله من رصانة الرؤية ووضوح الفكرة، وكان مناوئوهم يناقشونهم بناء على ذلك، واليوم أصبح سياسيون ( وخصوصاً من المعارضين) يفضلون التعبير الفوري المفتقر لأبسط أسس العمل السياسي الرصين من خلال تويترات سطحية انفعالية مرتبكة ساذجة، حتى أن أحد زعماء هذه المعارضة قد هدد ذات يوم بأنه من خلال» تويت واحد» قادر على تجييش عشرات الآلاف من المريدين أو إلغاء أخطر القرارات أو إعلان الحرب الطاحنة ( مثلاً).!!
كان السياسيون المحترفون يعبرون عن آرائهم الرصينة، وعن أفكار أحزابهم في الاجتماعات واللقاءات الصحفية وعبر الخطب السياسية المدروسة كل كلمة فيها ( غالباً ما يتم الاتفاق على مفرداتها داخل الحزب)، ولكن في إطار القيم الناظمة للحياة الاجتماعية، وضمن القيم المكرسة في الحياة السياسية في سياق ثوابت المجتمع، دون تهريج أو تهديد أو وعيد أو استعراض للعضلات المفتولة وغير المفتولة، ودون تزييف أو تحريض، ولكن الذي يحدث اليوم هو أن بعض السياسيين أصبحوا أقرب إلى مهرجي السيرك يتنططون في الاستعراض والتهريج والصراخ والتهييج والتحريض، فانهارت بذلك القيم الأخلاقية قبل السياسية، وأصبحنا نستمع إلى عبارات مقززة، وإلى كلمات جارحة غير مهذبة في وصف الرجال والنساء من خارج أفق قيم الإسلام العظيم، ومن خارج أفق التسامح بين البشر، ومن خارج أفق الديمقراطية التي يتشدقون بها، وهي منهم براء.
فلا غرابة إذن أن ينتقل هذا الوباء إلى أطفالنا ومراهقينا، فيتبادلون اللكمات والمولوتوفات والسباب عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بل وقد يصل الأمر بهم لأن يقتلع بعضهم عيون بعض، ضمن هذه الثقافة المنحطة والقيم المتدنية، لأن الانحطاط إذا كان صادراً عن الكبار فلا عجب أن يصبح الصغار راقصين في حفلة الزار المولوتوفية.
والأمر نفسه يكاد ينطبق حتى على بعض المشتغلين بالإعلام من الذين أصبح «التوتير» المحموم- يكتبه مكتئب من تحت غطاء النوم- مصدراً رئيساً لمادة مقالاتهم وتقاريرهم الجوفاء الخائبة المسكينة، فهم ليسوا في حاجة إلى الكدح طالما أن « التويتر» يمدهم كل صباح ومساء بالأكاذيب وبكلمات النار والكراهية وعبارات الحقد الملغومة، فهم ليسوا في حاجة اليوم للالتزام بيم الكتابة وبميثاق شرفها، فلا يتقصون ولا يتحققون من الوقائع، المهم بالنسبة إليهم هو تحقيق فعلي التهييج والتحريض دون اعتبار للحقيقة التي يتوجب أن ينشدها كل كاتب ذي عقل وبصيرة يحمل مصباح دوجين، مصباح الحقيقة، ولذلك أصبح مألوفاً أن تتحول بعض المقالات إلى مجرد تبادل للشتائم، فتكون خالية من كل فكر أو رأي أو رؤية، إلى درجة أن بعض الجمهور قد استطاب هذا النوع من الكتابات التي لا تقول شيئاً غير السباب واللعن المركب من الجهل والحقد وعمى الألوان.
إن تدنى مستوى التخاطب السياسي والإعلامي قد بلغ درجة لم يعد من الممكن معه أن نستوعب ما يدور حولنا من مشكلات، وما نواجهه من تحديات خطيرة تهدد بانقسام المجتمع، وتكريس الطائفية بدلا من الوطنية، وجعل التجاوز أكثر تعقيداً وصعوبة، بما قد يجر البلاد إلى صراعات لا يحمد عقباها.
إننا بأمس الحاجة إلى نهج سياسي عقلاني ومتوازن يقوم على أساس من التربية السياسية القائمة على المنهج الديمقراطي واحترام الحق في الاختلاف والرأي الآخر وتقدير الذات والآخرين والإيمان بالمشاركة السياسية والمجتمعية، والأهم من ذلك هو وقف الهدر الأخلاقي والإنساني والاجتماعي والاقتصادي القائم على افتعال المواجهة الطاحنة والخرافية التي تؤثر في التماسك الاجتماعي بين الشركاء في الوطن، وإن خوفنا هذا من نتائج الانحطاط يجب أن يشجعنا على المناداة بتعزيز الخطاب السياسي والإعلامي العقلاني الرصين المبني على القيم، ويحمل في صلبه الوسطية التي تحمي كرامات وآراء الآخرين، وتتقبل التعددية الفكرية والسياسية.