التعليق الأول الذي ورد إلى ذهني بعد قراءة اللقاء مع السفير الأمريكي؛ هو نجاح سعادة السفير في الحديث عن العموميات والشعارات والمبادئ العامة (نبذ العنف، التحالف، العلاقات التاريخية، بلا بلا)، أما حين يتم طلب الإيضاح بمزيد من التفصيل فإننا نجد أن هناك فارقاً كبيراً بين فهمنا وفهم سعادة السفير لتلك العموميات والمبادئ والشعارات، فلا تحديد أو تعريف “للعنف” متفق عليه، ولا تعريف “المصالح المشتركة” نتفق عليه، ولا تحديد عبارة “مصلحة الجميع” متفقون عليه، فترجمة معاني تلك المصطلحات على أرض الواقع بين الولايات المتحدة الأمريكية والبحرين من خلال الأمثلة بينت مدى تباعدنا في فهم المقاصد العامة. بالتأكيد أن (الآي كيو) أي مستوى الذكاء لكلينا (القراء وسعادة السفير) على درجة مقبولة تسمح بوجود قواعد مشتركة في فهم التفاصيل والأمثلة، فلا يعقل أن نختلف بهذا الشكل المفرط حول كمية غاز مسيل، أو نختلف على معنى الخيانة ومفهومها؛ فهي أمور لها ضوابطها القانونية في كل الدول بما فيها دولة سعادتكم، إلا أننا سنعد تلك الأمور من الجدليات إكراماً للوقت، وسنتجاوز العموميات ونتجاوز حتى التفاصيل والأمثلة الصغيرة التي ذكرت ولنبتعد عنها حتى نحترم ذكاء بعضنا البعض. بداية أحب سعادة السفير أن أستمحيك عذراً في مخاطبة حكومتنا ومجلسنا النيابي حول تصريحاتك الأخيرة ثم أعود لك. إنني أتحدث عن نفسي كمواطنة بحرينية ترى في تدخل السفير الأمريكي في شؤوننا تجاوزاً للأعراف الدبلوماسية، وهنا أوجه خطابي لجهتين مسؤولتين عن إعادة الأمور لنصابها؛ الأولى الحكومة والثانية مجلس النواب، وأطالب هنا مجلس النواب باستخدام الأداة الرقابية النيابية وهي الاستجواب لمعالي وزير الخارجية البحرينية (ووفقاً للتعديلات الدستورية ستكون علنية في جلسة عامة) ليجيب معاليه عن الأسباب التي دعت حكومة مملكة البحرين لإعطاء أحد السفراء حرية التحرك بما يتجاوز المساحة المتفق عليها دولياً؛ فيعلق على الأحكام القضائية ويحدد شكل وطبيعة الحوار بين القوى السياسية، وهي مساحة سمحت بها -مع الأسف- الحكومة دون وجه حق، وهي مساءلة أمام الشعب، فإن تقاعس النواب فهم مساءلون أمام دوائرهم وأمام الرأي العام عن هذا التقاعس غير المقبول. أنا هنا لا أتصيد أو حتى ألوم الصديق معالي وزير الخارجية الشيخ خالد بن أحمد شخصياً، لكنني أمارس حقي الدستوري من خلال الأدوات الرقابية التي منحها لي دستور مملكة البحرين لمساءلة الحكومة حول سياستها الخارجية فيما يتعلق بحفظ سيادة واستقلال وطني. كما إنني لا أحمل أي موقف عدائي لشخص السفير الأمريكي بتاتاً، وأكثر من ذلك للشعب الأمريكي مكانة خاصة في نفوسنا، الآن نأتي لمناقشة سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، وهي سياسة أصبحت واضحة جداً ولا تخفيها كل عموميات الدنيا (المصلحة المشتركة.. العلاقات التاريخية.. حلفاء.. بلا بلا)، سياستكم الآن هي خلخلة الوضع السياسي الحالي بتمكين شريحة من المجتمع وأحد الأحزاب دون أدنى اعتبار لتبعات تلك السياسة، بل هناك إصرار على تنفيذها وإمعان في تطبيق سياسة التمكين من خلال الوسائل المتاحة لكم، وأولها ضعف الدولة وترددها حيال ضغوطكم! تلك السياسة، سعادة السفير، لها تبعاتها التي ستشكل خطراً على الأمن الإقليمي والدولي، فخلخلة الأوضاع السياسية والاجتماعية بالشكل الذي تدفع به دولتكم في العراق والبحرين سيخل بالتوازنات الجيوسياسية التي حفظت لهذه المنطقة استقرارها، وقد رأيتم سعادتكم ردة فعل المجتمع الخليجي بعمومه على موقفكم من أحداث البحرين، ورغم ذلك هناك إصرار على تطبيق استراتيجيتكم حتى بتنا نخشى أن يتحول الأمر إلى مسألة شخصية بالنسبة للأشخاص المعتمدين للخدمة الدبلوماسية في المنطقة، ينظرون لها وكأنها امتحان لنجاحهم أو فشلهم الشخصي بعيداً عن أية اعتبارات أخرى تضع حياة وأمن وسلامة الآخرين موضع التهديد، بل بعيداً حتى عن مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة التي ممكن أن تكون في موضع تهديد. سياستكم جلبت الدمار للعراق، وهذا مقياسنا للأمور لا مقياسكم، رغم إننا كنا مع الإطاحة بنظام صدام حسين، لكننا لسنا مع ما آلت إليه الأمور في العراق، وليس هناك شعب في المنطقة يتمنى أن تعاد التجربة العراقية في وطنه، لكنكم تريدون تعميم التجربة على دول أخرى رغماً عن أنف شعبها، ولن نتجادل فيما إذا كانت هذه السياسة ستفضي بنتائج في صالح شعوب المنطقة أم لا، فدعك من صالحنا (لنذهب للجحيم) لنتحدث عن مصالحكم. الاضطرابات التي تخلقها سياستكم في المنطقة لن تبقى إلى الأبد في حدودها الإقليمية فحسب، وأنتم تعلمون ذلك، بل حتى وإن بقيت إقليمية ففي كلتا الحالتين سياستكم تدفع لصراعات طائفية وتدفع الغالبية في المجتمع الخليجي للدفاع عن كيانه ووجوده الذي أصبح مهدداً بسبب تدخلاتكم وبسبب دعمكم السافر لأحزاب محددة دون غيرها، ليس لكم أن تحددوا مدى مخالفتها للقانون أو طبيعة علاقتها بالآخرين، دفاعكم عنهم بهذا الشكل ودون مسوغ منطقي ولا حتى صلاحية أو اختصاص يؤكد ما نؤمن به بأنكم توفرون لهم الغطاء والدعم لتمكينهم سياسياً بشكل لا يتفق حتى مع أسس الديمقراطية التي تدعون لها، والتي تتركهم للحراك السياسي الحر ليكسبوا دعم القواعد الشعبية الكافية للتغيير، إنكم تتبنونهم تبنياً قصرياً وتفرضونهم فرضاً على الشعب البحريني، وتلك سياسة تهدد غالبية المجتمع الخليجي لا البحرين فقط بسنتهم وشيعتهم ممن يختلفون معهم. فإن كان لديكم مصالح على الأرض ومصالح في المياه تستدعي أن تستقر هذه المنطقة وتبتعد عن الاضطرابات؛ فإنكم إنما تهددونها بسياستكم الحمقاء هذه. ودعنا نذكركم بالهدف الأساسي من مبدأ كارتر الذي ينص على “النظر إلى أي قوة خارجية للسيطرة على منطقة الخليج الفارسي على أنها هجوم على مصالح الولايات المتحدة الأمريكية الحيوية، وسيرد مثل هذا الهجوم بكل الوسائل الضرورية بما فيها القوة العسكرية”، هدف كارتر في النهاية كان الحفاظ على سلامة تدفق مصالحكم الحيوية وحماية وجودكم هنا، أي على الأرض التي نملكها نحن كشعوب خليجية، وهي مصالح ستكون مهددة لا من قوة خارجية في حال إصراركم على خلخلة الوضع في المنطقة؛ بل ستكون مهددة من قوة محلية لا يمكنكم إلقاءها في البحر والتخلص منها وإبقاء أبنائكم المدللين فيها. دعنا نذكركم سعادة السفير أن تلك المصالح كانت وإلى يومنا هذا موضع تقدير واحترام من شعوب المنطقة، وذلك لأنها مشتركة ولأنها متبادلة ولأنها مبنية على احترام الشعب الخليجي للعالم ولمصالحه الحيوية في منطقتنا، وليست لأنها مبنية على علاقات تاريخية مع الأنظمة فحسب. على صعيد آخر فإن لشعوب المنطقة -هي الأخرى- علاقات تاريخية مع الأسر الحاكمة مبنية على الاحترام المتبادل وعلى مدى حفاظ هذه الأسر على مصالح شعوبها، ومحاولة العبث بمصالح هذه الشعوب بالضغط على الأنظمة السياسية فيها يعد استهانة بشعوب المنطقة وتخطيها بما يشكل تهديداً لكل تلك الروابط المشتركة التي تجمع الأطراف الثلاثة (الأنظمة السياسية والشعوب الخليجية والولايات المتحدة الأمريكية)، لذلك أعود لبداية المقال الذي أطالب فيه من خلال حقي الدستوري بمساءلة حكومة مملكة البحرين ممثلة في وزير الخارجية عن سياستها في الحفاظ على سيادة وطني وعلى مصالحنا الوطنية وحفظ ثرواتها وترابها، لأنبهكم بأن شعوب دول مجلس التعاون -سعادة السفير- تملك العديد من أدوات الضغط على أنظمتها التي لا تملك أن تتجاوز مصالح شعوبها، وتملك كل الخيارات في الحفاظ على سيادتها، وهي شعوب يتزايد حجم السخط فيها على سياستكم التي تستهين بها إلى أبعد درجة ولا تحترم خياراتها وسيادتها وحريتها، ونتمنى ألا يضيع الوقت مرة أخرى في الحديث على العموميات مثل (نحن نحترم الشعوب الخليجية.. ونحن نقدر.. ونحن لا نتدخل و.. و.. و... من البلا بلا) مرة أخرى احتراماً لذكاء بعضنا البعض. خلاصة القول -سعادة السفير- سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الخليج العربي مرفوضة تماماً، فلا تملكون أن تفرضوا علينا شكل ونوع وسرعة التغيير في المنطقة، حتى لو استخدمتم القوة (العسكرية أو الناعمة) لا فرق، فسنقاوم إلى آخر رمق. وسياستكم مرفوضة بتمكين أو دعم أي فئة على حساب الفئات الأخرى؛ فتلك سياسة أول من سيتضرر منها تلك الفئات، وقد بدأت تتضرر بالفعل نتيجة استعانتها بكم ضد شركائها في الوطن. وتدخلكم في مسارنا السياسي أو استهانتكم باستقلال قضائنا نرفضه وبشدة، وسنسائل حكومتنا إن قبلت به، وسنستخدم كل ما هو متاح لنا دستورياً في منع تغولكم وإمعانكم في الاستهتار بنا، تماماً كما ستفعل سعادة السفير لو أن أحداً استهان بكم كشعب أو تدخل في قضائكم أو حاول فرض سياسته عليكم. رأسنا كانت ولاتزال مرفوعة، ولن نسمح لأحد كائناً من كان ومهما بلغت قوته بخفضها ذلاً.