«كل شعب ينقسم شعبين يصبح في قبضتنا” هرتزل..
يقف العرب اليوم أمام استحقاقات متجددة للتحول نحو الديمقراطية والمشاركة السياسية والتداول على السلطة وبناء الفضاء الاجتماعي الحر، تعزيز الاعتماد على القدرات الذاتية لتفادي ارتهانهم للخارج في سياق العولمة المتعاظمة، من خلال تجديد شروط شراكتهم الفكرية والاجتماعية والتنموية في مشروع حضاري إنساني سواء على المستويات العلمية والتربوية أو على المستويات السياسية والحقوقية والثقافية نحو السموِّ وقبول الآخر.
إن هذا التجديد يمكن أن يؤسس لمفاهيم السلام الحقيقي والتعايش بين الأديان وهو الشرط لرئيسي للسلام في بعده الأعمق، وضمن شرطه الإنساني، حيث إن الحروب -مثلما يقول جاك ديلور- تنشأ أول ما تنشأ في العقول، والسلام لا ينشأ إلا إذا نشأ في العقول والوجدان من خلال الحد من اتساع المسافة بين الأديان والمذاهب بل داخل المذهب الواحد نفسه، واتساع الشقة تمهيداً لحروب لا تنتهي إلا بهلاك الأرض والحرث والنسل، ولنا في العراق ولبنان وأفغانستان خير مثال على ذلك، فالذين زرعوا الانقسامات وغذوها ورعوا نموها لتنهض في النفوس والعقول يجلسون اليوم على الربوة فيما يحترق أبناؤنا اليوم بنارها في الساحات والمدارس والمساجد والجامعات والمصانع، وقد يكون الزارع الناعق هنا أجنبياً قريباً، أو أجنبياً بعيداً ولكن له وكلاء محليين يتمشون على آلامنا ودمائنا. فالانقسامات التي يريدونها لنا تعيد إلى الأذهان الخوف من إعادة إنتاج “سايكس - بيكو” جديد تحت شعار “سلام ديمقراطي” في الشكل، وفي مضمونه تكريس للانقسام الإثني - والديني والطائفي. وبدلاً من الخروج بالدولة الوطنية الواحدة الموحدة، تصبح لدينا دول طائفية دينية وعرقية ومذهبية، على شاكلة دولة شيعية وأخرى سنية وأخرى كردية ورابعة تركمانية مثلاً، وتصبح هنالك رئاسة مارونية ورئاسة سنية ورئاسة شيعية ورئاسة كردية ومحاصصة وزراء وولاة وقضاة وباعة متجولون، الأمر الذي يدخل المنطقة في دوامة من العنف المتكرر والمولّد للأحقاد والتفكك، وعندها يحقق حلم هرتزل الذي قال: “كل شعب ينقسم شعبين يصبح في قبضتنا”.
فنحن كعرب لا نعيش حالة تفاعل حضاري، بل نحيا حالة انفعال أشبه ما تكون بردّة فعل كائن مذعور خائف، لأننا لم نعد ندرك ذواتنا، إلا عبر إدراك الآخر لنا، والثقافة العربية إذاً، لا تعيش التثاقف والتفاعل منتجة لتفاعل فكري جادّ، وإنما ما نشاهده علاقة تلقف نمط عيش استهلاكي مادي شكلي، بعيد كل البعد عن المضامين الفكريّة المؤسسة لبنية الحضارة الإنسانية،والديمقراطيات المطروحة اليوم هي في ضمن الإطار الاستهلاكي نفسه.
وهكذا، فالخطر المحدق بشعوب المنطقة قاطبة كان وما زال ذا وجهين:
الوجه الأول؛ العقل الذي حَكَمَنا غلَّب فينا عقلاً طائفياً تفتيتياً أسَرَنا من خلال الأوهام الطائفية والحروب المستجلبة من أعماق التاريخ.
الوجه الثاني؛ غلَّب علينا عقلاً حداثوياً خارجاً عن السياق استلبنا بالأوهام والقفز على الواقع ودفعنا إلى مواجهات مزيفة وطرح إشكاليات أكثر زيفاً.
لذلك فالمطلوب هو تجاوز الاستلابين، الأصولي والحداثوي لانبتاتهما عن الواقع، ونعتقد أن هذه الإشكاليات الزائفة تسقط اليوم، ليتكون وعي جمعي ومشترك بين الجميع الذين يبدو أنهم أدركوا الحاجة الى التقارب.. هذا التقارب بين كل الأحزاب دون استثناء، والدعوة إلى حوار مجتمعي يشارك فيه الجميع، هذا التشارك في الحوار وقبول الناس بعضهم ببعض يوصل إلى مشترك بينهم.. والذي يحصل حالياً أن النماذج التي تتخلق وتتكون في كثير من الأقطار لتساعد على هذه المسألة، ويسقط معه هذا الغلو القائم على أساس أن كل طرف لوحده يمتلك الحقيقة المطلقة، وأنه من يصبغ قيم وتقاليد وأفكار الناس بل ومن يحكم الناس ويمثلهم لوحده.. الآن هناك وعي يتخلق في المجتمع لابد أن نراهن عليه، وبخاصة وعي الشباب الذين من الأجيال الجديدة التي بات من الصعب قولبة عقولها بالشكل السابق، هؤلاء الشباب هم اليوم من يشكلون هذا المشترك.